responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : ذكريات المؤلف : الطنطاوي، علي    الجزء : 1  صفحة : 238
جعلتُ قارئه يشعر أن المصاب بأبي قد هزّ أركاني وزلزل إيماني، وأنْ قد حطّم آمالي إعراضُ عمَّيّ عنّي، وأن اعتمادي كان عليهما فلما منع أحدهما غضبت عليه وتكلمت عنه، ولما منح الثاني شكرت له وأثنيت عليه. حتى إن ذكرياتي عنهما كانت كالنهر الجيّاش الذي يحمل معه حطباً له شوك شاكَ بعضاً من أقربائي ممّن أفضى إلى ربه، فاللهمّ إن كنت قد ظلمته فاغفر لي ورضّه بكرمك عني، وإن كان الحقّ لي عليه فقد سامحته.
أحفظُ من الصغر أن «لو اطّلعتم على الغيب لاخترتم الواقع»، ولا أقول إنه حديث ولكن أشهد الآن -وقد صار واقعاً بالنسبة لي ما كان ذلك اليوم غيباً- أن الخير فيما اختاره الله لي.
إني لأنظر إلى تلك المصيبة من وراء تسع وخمسين سنة مرّت عليها فأرى أن ما قدّره الله علينا كان فيه النفع لنا. لقد تمرّستُ بالحياة مبكّراً، وذقت منها ألواناً، وخبرت الناس أصنافاً وأجناساً، وكانت الفائدة من ذلك القدر أكثر من الضرر.
لقد أدركت يومئذٍ (وتحقّقتُ اليوم) أن الحياة مثل الناعورة. هل تعرفونها؟ دولاب كبير عُلّقت به دلاء وسطول [1]، يكون السطل منها ملآنَ وهو فوق (كما كنا على عهد أبي) فينزل فارغاً إلى الحضيض (كما نزلنا بعده). فمَن كان قصير النظر ظن أنها النهاية، ومن دقّق وحقّق رأى الدولاب يدور، فما نزل يصعد وما فرغ يمتلئ.
وإن هذه هي الدنيا: ارتفاع وانخفاض، امتلاء وفراغ،

[1] الناعورة والسطل من العامّي الفصيح.
اسم الکتاب : ذكريات المؤلف : الطنطاوي، علي    الجزء : 1  صفحة : 238
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست