على هذا السنن سار ابن عباس منذ طفولته، غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة، قال رضي الله عنه: (لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: "هلم فلنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اليوم كثير"، فقال: "واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ فيهم؟ "، قال: "فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليَّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: "يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ "، فأقول: "لا، أنا أحق أن آتيك" فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصارى حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني").
فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا
ولا تنتظر بالسير رُفْقَةَ قاعدٍ ... ودعه، فإن العزم يكفيك حاملا
* وقد كان ابن شهاب رحمه الله يشجع الأولاد الصغار، ويقول لهم: "لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإنْ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل، دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم" [1].
[وكان الخليفة "هارون الرشيد" رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك: (فما رأيت عالمًا ولا قارئًا
(1) "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 85).