هِمَّتي هِمةُ الملوك ونفسي ... نفسُ حُرٍّ تَرى المذلة كُفْرا) (1)
وقال عمر بن حفص الأشقر: "إنهم فقدوا البخاري أيامًا من كتابة الحديِث بالبصرة، قال: فطلبناه فوجدناه في بيتٍ وهو عُرْيان، وقد
(1) انظر: "صفحات من صبر العلماء" ص (35) وما بعدها.
ومن الملاحظ أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفُتيا والتدريس والإمامة والخِطابة والأذان ونحوِ ذلك لا تَعظمُ ثروتُهم في الغالب، والسبب لذلك ما قاله ابن خلدون، وهو: (أن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية، وهي متفاوتة بحسب الحاجة إليها، فإذا كانت الأعمالُ ضرورية فٍى العُمرانِ عامَّةَ البلوى به، كانت قيمتها أعظم، وكانت الحاجة إليها أشد.
وأهل هذه الصنائع الدينية لا تُضْطَّرُ إليهم عامة الخلق، وإنما يَحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه، وإن احتيج إلى الفُتيا والقضاء في الخصومات، فليس على وجه الاضطرار والعموم، فيقع الاستغناءُ عن هؤلاء في الأكثر، وإنما يَهتم بإقامة مراسمهم صاحبُ الدولة بما له من النظر في المصالح، فيَقَسِمُ لهم حظًّا من الرزق على نسبة الحاجة إليهم، على النحو الذي قَررَّناه، لا يُساويهم بأهلِ الشوكة ولا بأهلِ الصنائع، من حيث الدينُ والمراسمُ الشرعية، لكنه يقسِمُ بحسب عموم الحاجة وضرورةِ أهلِ العُمران، فلا يَصحُّ في قِسمهم إلا القليل.
وهم أيضًا لشَرَفِ بضائعهم أعزَّة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يَخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظًّا يستدرون به الرزق، بل ولا تَفرُغُ أوقاتُهم لذلك، لما هم فيه من الشُّغل بهذه البضائع الشريفة المشتملةِ على إعمال الفكر والبدن، بل ولا يَسعُهم ابتذالُ أنفسهم لأهل الدنيا لشرف بضائعهم، فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظُمُ ثروتُهم في الغالب.
ولقد باحثتُ بعض الفضلاء -في هذا المعنى- فأنكر ذلك عليَّ، فوقَعَ بيدي أوراق مُخَزَّقةٌ من حسابات الدواوين بدار المأمون، تشتمل على كثير من الدَّخل والخَرْج، وكان فيما طالعتُ فيه أرزاق القُضاة والأئمة والمؤذنين، فوَقَفتُه عليه، وعَلِمَ منه صِحةَ ما قلتُه ورجع إليه، وقضينا العجبَ من أسرار الله في خلقه وحكمته في عوالمه، والله الخالقُ القادرُ لا رَبَّ سواه) اهـ.