اسم الکتاب : قصص من التاريخ المؤلف : الطنطاوي، علي الجزء : 1 صفحة : 67
وكان مكان هذه الفتاة بين ذراعَي أم تحنو عليها أو زوج يحميها، يكتم سر هذا الجمال أن يفشو ويستعلن وتعبث بقدسيته العيون السارقة والأيدي المجرمة .. ولكنّ مَن بيده أمرها لم يرَ لها إلا هذا المكان الذي تنتهبها فيه العيون وتعبث بها فيه الأيدي وتفترسها فيه سباع البشر. أفرأيت الزهرة اليانعة تلقى بين ألسنة اللهيب، والحَمَل الضعيف يرمى بين أنياب الذئاب؟ كذلك كانت هذه الفتاة وقد قذفت بها الحياة بين ذراعي كل وَبْش [1] فظ غليظ من ذئاب الناس وكلابهم. هي زهرة ولكن الرياح العاتية قطفتها من غصنها ثم ألقتها بين الأشواك البرية لتجف عليها وتذوي، وهي وردة ولكن النهر الجياش اختطفها من منبتها ثم رمى بها في الحقل لتموت تحت أرجل البهائم والأناسي.
لبثت هذه الفتاة جالسة تطارد النوم الذي يعبث بعينيها الناعستين من غير نعاس، تأمل أن تجد امرءاً يدفع إليها المال الذي فرضه عليها سيدها حين أرادها على هذه الحياة الداعرة، فنزلت على إرادته وجعلت جسدها مائدة لكل جائع. وهل تستطيع له دفعاً وهي أمَته وملك يمينه، حملها من وطنها البعيد فنهل من كأس جمالها حتى شبع وروي، فوضع الكأس على حافة السبيل تلغ فيها الكلاب؟ إنه يصرفها كما يصرف دابته، ويصنع بها ما يصنع بثوبه، يلبسه أو يرميه في الطريق أو يهديه إلى صديق أو يرضى له التخريق والتمزيق. وذكرت عرضها الذي مزقته مطامع سيدها، وجسدها الذي أبلته وحشية الرجال طلاب اللذة من كل شكل [1] الوَبْش: واحد الأوباش من الناس؛ وهم الأخلاط والسفلة (مجاهد).
اسم الکتاب : قصص من التاريخ المؤلف : الطنطاوي، علي الجزء : 1 صفحة : 67