اسم الکتاب : قصص من التاريخ المؤلف : الطنطاوي، علي الجزء : 1 صفحة : 263
أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب الجامع الأموي، سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة، وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفد منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله وينظر بعضهم في وجوه البعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم.
خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول فيقذف به على لسانه، ولم يستطع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح، قد ذابت كلماتها في معانيها ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كلَّ عصر مرةً لسانُ محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامةً من الكرامات وواحدةً من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة: لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر العيون ... وإنما حفظوا منها جملاً نقلوها إلى لسان الأرض فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. وكان مما حفظوا:
"يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادُهم بالحق أقطارَ الأرض، وحُكموا هم بالباطل في ديارهم وأوطانهم! يا من باع أجدادُهم نفوسَهم من
اسم الکتاب : قصص من التاريخ المؤلف : الطنطاوي، علي الجزء : 1 صفحة : 263