وكذلك عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم، وكون هذا حفاظًا للأمة وحرزًا ظاهرًا، فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض عن ارتكاب المنكرات خرجوا عن معنى الأمة، وكانوا أفذاذا متفرقين لا جماعة لهم، ولهذا ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا المثل كما روى البخاري عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيدهم نجوا ونجوا جميعًا)).
فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع كالكذب والخيانة والحسد والغش. أما معنى الآية على القول بأن من للتبعيض، وتقدير الكلام: ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين كافة فهم المكلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، فها هنا فريضتان أحدهما على جميع المسلمين، والثانية على الأمة التي يختارونها للدعوة.
ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة، وليس معناه الجماعة كما قيل، وإلا لما اختير هذا اللفظ، والصواب أن الأمة أخص من الجامعة فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافًا أرجعوها إلى الصواب.