وقد أطال كل من ابن القيم -رحمه الله- شيخه ابن تيمية -رحمه الله- في بيان هذه القاعدة؛ فقال ابن القيم في (إعلام الموقعين) بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد، قال -رحمه الله-: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح.
فهي بها الحياة، والغذاء، والدواء، والنور، والشفاء، والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله -سبحانه وتعالى- خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخر".
ثم قال -رحمه الله- بعد هذه المقدمة: "ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه -بحول الله تعالى وتوفيقه ومعونته- بأمثلة صحيحة، المثال الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع لأمته