اسم الکتاب : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث المؤلف : الصلابي، علي محمد الجزء : 1 صفحة : 790
حتى تلقوني على الحوض» [1].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن هذه المقالة لم تصدر من الأنصار كلهم، وإنما قالها حديثو السن منهم؛ بدليل ما ورد في الصحيحين، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين: أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم, فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم» [2].
ويرى الإمام ابن القيم -استدلالاً بهذه الحادثة-: أنه قد يتعين على الإمام أن يتألف أعداءه لاستجلابهم إليه, ودفع شرهم عن المسلمين فيقول: الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين ذلك -أي التأليف- للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رءوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين [3].
والتأليف لهذه الطائفة إنما هو من قبيل الإغراء والتشجيع في أول الأمر حتى يخالط الإيمان بشاشة القلب، ويتذوق حلاوته.
ويوضح الشيخ محمد الغزالي حقيقة هذا الأمر في مثال محسوس فيقول: ... إن في الدنيا أقوامًا كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليه فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له [4].
إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب للأنصار صورة مؤثرة: قوم يبشرون بالإيمان يقابلهم قوم يبشرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاة والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصور, وأدركوا أنهم وقعوا في خطأ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء ومآقيهم [1] مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/ 738) رقم 1061. [2] مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/ 734) رقم 1509. [3] انظر: زاد المعاد (3/ 486). [4] انظر: فقه السيرة، ص427.
اسم الکتاب : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث المؤلف : الصلابي، علي محمد الجزء : 1 صفحة : 790