اسم الکتاب : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث المؤلف : الصلابي، علي محمد الجزء : 1 صفحة : 258
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفته نحو أمه، وبره بها؛ ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر - رضي الله عنه -، وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر - رضي الله عنه - كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين به [1].
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ) وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق - رضي الله عنه - فبعث بهذه الآية إلى أَخَوَيْهِ الحميمين عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب - رضي الله عنه - لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي [2].
3 - أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له [3]، وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون فيها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة [4]. [1] انظر: التربية القيادية (2/ 160). [2] انظر: التربية القيادية (2/ 160). [3] انظر: في السيرة النبوية، ص132. [4] انظر: في السيرة النبوية، ص132.
اسم الکتاب : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث المؤلف : الصلابي، علي محمد الجزء : 1 صفحة : 258