إن امتاز عمل عبد المطلب هذا بشيء، فإنما يمتاز بأنه نذر خالص لله تعالى لا لإله غيره كما يفعل الذين يتبعون هذه العادة، ويقدمون نذرهم لغير الله، ويمكن أن يكون قد نشأ في نفس عبد المطلب ميل إلى تقليد إبراهيم عليه السلام، ولم يدرك الفرق بين المأمور، وغير المأمور وظن أن كل رجل حقيق بذبح ولده.
لقد من الله على عبد المطلب إذ وفقه في الإيفاء بنذره، وكتب النجاة لعبد الله، كانت دية النفس في العرب عشرا من الإبل قبل هذه الواقعة فصارت بعدها مائة من الإبل. كأن إخلاص عبد المطلب وطاعة عبد الله لأبيه رفعت من شأن الإنسان وقيمته في البلاد كلها، والظاهر أن تكون نسبة أحداث القتل قد انخفضت بقدر الزيادة في الدية، وهكذا سببت هذه الواقعة اليمن والبركة للبلاد والناس جميعا. والابن الذي كان رحمة للعالمين لابد أن يكون آباؤه أيضا من المحسنين إلى البشرية.
روى أبو نعيم والخرائطي وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قصة تدل على عفة عبد الله: وهي أن فاطمة بنت مر الخثعمية أظهرت له حبها وعرضت عليه مائة من الإبل ليلتفت إليها فأبى لها عبد الله ذلك وقال:
أما الحرام فالممات دوفه ... والحل لاحل فاستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه (1)
وكان عبد الله قد تزوج آمنة، ثم توجه إلى أرض الشام للتجارة. ولما عاد منها أقام بالمدينة على تجارة تمر لأبيه عبد المطلب وهناك مرض ومات.
إن كل مؤرخ ينظر إلى أسماء أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - وينظر إلى تاريخ ذلك العصر، ليتعجب ويقول: كيف اختيرت هذه الأسماء الطاهرة في ذلك العصر. والحقيقة أن ذلك كان إرهاصا من إرهاصات النبوة. إن الطفل الذي تشرب العبودية الإلهية، من دم أبيه ورضع الأمان والسلام من لبن أمه، لا يستغرب أن يكون حميد الأفعال جميل الصفات ويجري ذكره على ألسنة الخلق جميعا، محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وسلم.
توفي عبد الله وهو في الخامسة والعشرين والنبي - صلى الله عليه وسلم - في بطن أمه.
(1) الخصائص الكبرى 1/ 40.