responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التوضيح الرشيد في شرح التوحيد المؤلف : نغوي، خلدون    الجزء : 1  صفحة : 239
[3]) أَنَّ مَا جَرَى لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ - لَيْسَ فِيْهِ عِلْمٌ بِالغَيْبِ مُطْلَقًا، وَلَكنَّهُ مِنْ بَابَ الكَرَامَاتِ الَّتِيْ أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - لَهُ وَلِغَيْرِهِ - وَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ عَنْهُ، بَلْ ولَا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الغَيْبِ أَصْلًا!
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِيْ صَحَّتْ فِي ذَلِكَ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: (وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشًا، وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ، الجَبَلَ! - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ قَدِمَ رَسُوْلُ الجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ هُزِمْنَا، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الجَبَلِ! - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، فَأَسْنَدْنَا ظُهُوْرَنَا إِلَى الجَبَلِ؛ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى - وَكَانَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ المَدِيْنَةِ حَيْثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَكَانِ الجَيْشِ مَسِيْرَةَ شَهْرٍ - فَقيْلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيْحُ بِذَلِكَ). [1] فَلَيْسَ فِيْهَا عِلْمُهُ بِمَا وَقَعَ لَهُم؛ وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ أَثْنَاءَ خُطْبَتِهِ دُوْنَ قَصْدٍ مِنْهُ أَصْلًا وَلَا عِلْمٍ، وَدَلِيْلُ ذَلِكَ سُؤَالُهُ رَسُوْلَ الجَيْشِ مَا جَرَى مَعَهُ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّاسِ لَهُ (إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيْحُ بِذَلِكَ!). (2)
عَلَى أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ عُمَرُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ فَيَبْقَى مِنْ بَابِ الكَرَامَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الغَيْبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الإِطِّلَاعَ عَلَى الغَيْبِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا لِلرُّسُلِ، وَإلَّا فَهَّلا اطَّلَعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ سَارِيَةَ - وَأَشَدُّ خَطَرًا مِنْهُ عَلَيْهِ - ألَا وَهُوَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ المَجُوْسِيُّ الَّذِيْ طَعَنَهُ فِي الصَّلَاةِ - وَهُوَ خَلْفهُ فِي الصُّفُوفِ - وَلَا يَحْتَاجُ لِكَثِيْرِ عَنَاءٍ لِرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ سِكِّيْنِهِ؟! (3)
وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ القِصَّةِ عَلَى حُصُوْلِ المُكَاشَفَاتِ مِنَ المَشَايْخِ وَالأَوْلِيَاءِ لِمَا يَحْصُلُ حَوْلَنَا؛ أَوْ لِمَا فِي الصُّدُوْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُوْرِ هُوَ مِمَّا اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ - كَمَا سَبَقَ -، وَأَمَّا المُكَاشَفَاتُ لِمَا يَحْصُلُ حَوْلَهُم فَقَد يَكُوْنُ تَعَامُلًا مَعَ الجِنِّ، أَوْ اخْتِلَاقًا، أَوْ تَهْوِيْلًا لِلقَصَصَ، أَوْ فِرَاسَةً وَفِطْنَةً، وَعَلَى كُلِّ فَلَا تُقَاسُ عَلَى قِصَّةِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَهُ مَزِيَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فِيْهِ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الحَديْثِ (فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ).

[1] صَحِيْحٌ. الاعِتْقَادُ لِلبَيْهَقِيِّ (314/ 1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيْحَةُ (1110).
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الطُّرُقِ الَّتِيْ فِيْهَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِهِم فَقَالَ ذَلِكَ! فَضَعِيْفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَمَّا مَا أَثْبَتْنَاهُ فَهُوَ صَحِيْحٌ. قَالَ عَنْهُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ) (175/ 10): (هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ).
(2) قاَلَ الذَّهَبيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (تَارِيْخُ الإِسْلَامِ) (249/ 3): (وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ سُئِلَ فِيْمَا بَعْدُ عَنْ كَلَامِهِ (يَا سَارِيَةُ؛ الجَبَلَ) فَلَمْ يَذْكُرْهُ).
[3] قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الصَّحِيْحَةِ (1110): (وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيْهِ، أَنَّ النِّدَاءَ المَذْكُوْرَ إِنَّمَا كَانَ إِلْهَامًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعُمَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ غَرِيْبًا عَنْهُ، فَإِنَّهُ (مُحَدَّثٌ) كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيْهِ أَنَّ عُمَرَ كُشِفَ لَهُ حَالُ الجَيْشِ؛ وَأَنَّهُ رَآهُم رَأْيَ العَيْنِ، فَاسْتِدْلَالُ بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ بِذَلكَ عَلَى مَا يَزْعُمُوْنَهُ مِنَ الكَشْفِ لِلأَوْلِيَاءِ؛ وَعَلَى إِمْكَانِ اطِّلَاعِهِم عَلَى مَا فِي القُلُوْبِ مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ، كَيْفَ لَا وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رَبِّ العَالَمِيْنَ المُنْفَرَدِ بِعِلْمِ الغَيْبِ وَالإطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الصُّدُوْرِ.
وَلَيْتَ شِعْرِيْ كَيْفَ يَزْعُمُ هَؤُلْاءِ ذَلِكَ الزَّعْمَ البَاطِلَ وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُوْلُ فِي كِتَابِهِ: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجِنّ:27)، فَهَلْ يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّ أولَئْكَ الأَوْلِيَاءَ رُسُلٌ مِنْ رُسُلِ اللهِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُم يَطَّلِعُوْنَ عَلَى الغَيْبِ بِإِطْلَاعِ اللهِ إِيَّاهُم!! سُبْحَانَك هَذا بُهْتَانٌ عَظيمٌ.
عَلَى أَنَّهُ لَو صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَشْفًا، فَهُوَ مِنَ الأُمُوْرِ الخَارِقَةِ لِلعَادَةِ - الَّتِيْ قَدْ تَقَعُ مِنَ الكَافِرِ أَيْضًا - فَلَيْسَ مُجَرَّدُ صُدُوْرِ مِثْلِهِ بِالذِيْ يَدُلُّ عَلَى إِيْمَانِ الَّذِيْ صَدَرَ مِنْهُ - فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَلَايَتِهِ - وَلِذَلِكَ يَقُوْلُ العُلَمَاءُ إِنَّ الخَارِقَ لِلعَادَةِ إنْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ فَهُوَ كَرَامَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ، وَيَضْرِبُوْنَ عَلَى هَذَا مَثَلًا: الخَوَارِقَ الَّتِيْ تَقَعُ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ الأَكْبَرِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَقَولِهِ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِري؛ فَتُمْطِرُ! وَلِلأَرْضِ: أَنْبِتِي نَبَاتَكِ فَتُنْبِتُ! وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الأَحَادِيْثُ الصَّحِيْحَةُ).
اسم الکتاب : التوضيح الرشيد في شرح التوحيد المؤلف : نغوي، خلدون    الجزء : 1  صفحة : 239
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست