معنى لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه
قال الشارح رحمه الله: [قوله (الله) قال الكسائي والفراء: أصله (الإله)، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاماً واحدة مشددة مفخمة.
قال ابن القيم رحمه الله: الصحيح أنه مشتق، وأن أصله (الإله)، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى].
الاشتقاق هنا ليس معناه أن له مادة متقدمة عليه اشتق منها، كما توهمه بعضهم، وإنما معناه أنه يلاقي المعنى الذي دل عليه، ويكون معناه مثلما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) ذو الألوهية يعني: الذي تألهه القلوب وتعبده وتحبه، وبين سيبويه أن هذا أصله، فأصله (إله)، وأنه مثل الناس، فأصلهم أناس، فأدخلت (أل) على (إله) ثم أدغمت، فأدغمت اللام في اللام ثم فخم فصار (الله)، وهو علم على الذات الإلهية الكريمة المقدسة، تجري عليه جميع الأسماء، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم، لأنه في جميع الموارد موارد الأسماء يأتي متبوعاً لا تابعاً، وقد جاء في موضع من القرآن تابعاً، ولكن الغالب الكثير أنه يأتي متبوعاً، كقوله جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:22 - 23]، فصارت كلها تتبع هذا الاسم (الله)، لهذا قالوا: إنه هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، وإذا استغيث به أغاث، ولكن هذا في الواقع حسب ما يقوم في قلب الإنسان من العبودية والإخلاص والتذلل لله جل وعلا، أما إذا دعا الإنسان وقلبه ساهٍ أو غافل أو معرض، أو هو متلبس بالمعاصي فهذه من موانع الإجابة، وإن سأل بالاسم الأعظم.
والمقصود أن أسماء الله جل وعلا أسماء وأوصاف، فهذا معنى الاشتقاق، أنها تكون أسماءً أعلاماً عليه، ولكن في معناها الصفات، والأصل أنها مشتقة من الصفات، والصفات هي الأصل، كما قال سيبويه هنا وجماعة من كبار أهل اللغة كـ الخليل بن أحمد: إن أصله (إله) أو (الإله).
وهذا يكون مثلما قالوا في قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] يكون أصلها: (لكن أنا هو الله ربي)، فلما حصل الإدغام -إدغام الحرف في الحرف- صار: (لكنَّا هو الله ربي)، وكما مثلنا في قول سيبويه: إن (الناس) أصله (أناس)، فلما جاءت (أل) التقى ساكنان فحذفت الهمزة وأدغم واحد في الآخر فصار (الناس)، فكذلك (الله)، فهو مأخوذ من (الإله) الذي يؤله، وتألهه القلوب وتحبه وتئوب إليه رغبة ورهبة وخوفاً ورجاءً.
قال الشارح رحمه الله: [والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله.
وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً، ليس معناه: أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة].
يعني أن المصدر يتضمن ما اشتق منه وزيادة، بخلاف الفعل فإنه لا يتضمن ذلك، وهذا سبب الذي جعلوه مشتقاً، وهذا من مباحث النحو.
قال الشارح رحمه الله: [قال أبو جعفر بن جرير: (الله) أصله (الإله)، أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة، وأما تأويل (الله) فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (هو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق)، وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين)].
معنى قول ابن عباس هذا: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) أنه المستحق أن يؤله ويعبد من جميع الخلق، يعني أن هذا أمر واجب عليهم حتم، فإن تركوه عذبوا؛ لأنهم تركوا الألوهية التي تجب عليهم له أن يعبدوه ويتألهوه، والتأله هو محبة القلب، أن يحبه حب عبادة، يقال: أله يألهه، أي: أنه أحبه حباً يتضمن الذل والتعظيم، هذا هو التأله، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون لمخلوق من الخلق، فإن وقع لمخلوق فقد وقع الشرك؛ لأن هذا خالص حق الله جل وعلا، أما العبودية فهي بمعنى الإلهية، ولا يوجد بينهما فرق، فالعبودية والألهية شيء واحد مثل التأله والتعبد لا فرق بينهما.
قال الشارح رحمه الله: [فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلاً في فعِل ويفْعَل قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم، وذكر بيت رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي، ولا شك أن التأله التفعل، من (أله يأله)، وأن معنى أله -إذا نطق به- عبَدَ الله].
ومجرد النطق لا يكفي، وإنما عول عليه هذا الشيء لهذا المعنى، أي: للعبادة.
قال الشارح رحمه الله: [وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بـ (فعِل يفعَل)، بغير زيادة، وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع وساق السند إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، قال: عبادتك ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبد].
هذه قراءة شاذة (ويذرك وإلهتك) يعني: عبادتك التي تعبد؛ لأنه قد كان يُعبد فرعون، أي أن: موسى يذرك وعبادتك التي جعلتها على قومه، فإنه قال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فهو كان يُعبد.
أما القراءة المعروفة السبعية فهي: (ويذرك وآلهتْك)، أي: التي تعبدها، فعلى هذه يكون فرعون له آلهة يعبدها غير الله جل وعلا، أما القراءة الأولى فيكون هو المألوه الذي يؤله، والمقصود أن هذا جاء على أن العرب قد نطقوا به، والقراءة الشاذة تكون دليلاً وإن لم تجز القراءة بها ولا تثبت قراءة في الصلاة، فلا يجوز القراءة بها ولا تكون من القرآن حتى تتواتر وتتفق مع رسم المصحف وتشهد لها اللغة العربية، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة: أن يثبت التواتر، وتتفق مع رسم المصحف العثماني، وتكون صحيحة المعنى في اللغة العربية، وإذا تخلف واحد من هذه الشروط الثلاثة لا يجوز أن تثبت قراءة، ولكن يستدل بها وتكون دليلاً كأخبار الآحاد التي يرويها فرد عن فرد من الناس.
[وذكر مثله عن مجاهد ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا أن أله: (عَبَد)، وأن الإلهة مصدره، وساق حديثاً عن أبى سعيد مرفوعاً أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب (باسم الله) فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة].
هذا حديث لا يثبت فهو ضعيف، فلا يصلح أن يكون حجة، وعيسى نبي كريم علمه الله جل وعلا وهو صبي كما جاء نص القرآن بذلك، ثم جاءت به أمه تحمله إلى قومها وهو رضيع صبي: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:27 - 29]، يعني: قالت: كلموه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، فأقبل عليهم وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] أي: من ذلك الوقت، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31]، فأول ما نطق به قوله: (إني عبد الله) يعني: أعبده، وهذا رد له لما فعلوه ولما سيكون بعد؛ لأنهم قالوا: إنه الله أو إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة، تعالى الله وتقدس عن قولهم، والمقصود أن هذا الحديث لا يثبت ولا يصلح أن يكون دليلاً.