الإيمان، فما له ولهذه الأمور، أليس كل همه الخلاص من هذا المأزق! مأزق وجوده في هذه الأرض في مملكة الشيطان؟
هكذا استخلصت الكنيسة من تلك العبارة وأشباهها مفهوماً سلبياً ضيقاً للحياة الدنيا، وبالتالي لمهمة الدين فيها، يائسة من إمكان إقامتها على الحق والعدل الإلهي، فحرفت المسيحية من عقيدة شاملة ذات منهج رباني كامل نزلت لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف الذي يعيشه الناس، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة إلى نظرة بوذية قاصرة للدنيا، مشفوعة بآمال وأحلام مرتقبة في الآخرة، ورأت أن تنظيم شئون الدولة وتقويم النظم السياسية والاقتصادية وإصلاح الأوضاع الاجتماعية، ليس من دينها في شيء، لأن مملكة المسيح ليست من هذا العالم.
ولا يعني هذا أن الكنيسة لم تمارس سلطات سياسية أو نفوذاً اجتماعياً، فقد كان منها ما لم يكن من أعتى القياصرة [1] لكن هذه الممارسة تظل محدودة بنطاق المطامع الشخصية لرجال الدين، وكانت الرغبة في إشباع هذه المطامع، وليست الرغبة في إقامة دين الله وشرعه هما الدافع من ورائها، فكان البابا يهمه بالدرجة الأولى أن يتولى تتويج الملوك ويحصل منهم على الضرائب والجنود ولا يسمح بأدنى تساهل في ذلك، أما حكمهم بغير ما أنزل الله فلا شأن له به؛ لأن ذلك من اختصاص قيصر؛ ولأن مملكة المسيح ليست في هذا العالم.
والواقع أن هذه العبارة كسابقتها لا تنهض دليلاً لما زعمته الكنيسة، بل إن لها -إن صحت- معنى آخر يوضحه السياق، وها هو سياقها كما ورد في إنجيل يوحنا: "دخل بيلاطس -أيضاً- إلى دار الولاية، ودعا يسوع وقال له: أنت [1] انظر الباب الثانى: فصل طغيان الكنيسة -لا سيما- الطغيان السياسي، (ص:133).