responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : ابن العربي    الجزء : 1  صفحة : 379
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَبَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُمْ فِيهِ أَعْدَلُ قَضِيَّةً؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ دِينًا وَدُنْيَا، وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمَا جِبِلَّةً وَشَرْعًا فَإِنَّهُ رَأَى مِنْ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا بَيِّنًا، وَطَوَاعِيَةً ظَاهِرَةً، وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّ أَبِيهَا، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ، وَيَكُونَ عَنْ ثَوَابِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِمَعْزِلٍ، وَطَاعَتْ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ؛ فَأَذِنَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ.
وَكَأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنْ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ، وَالْبَدَنُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَإِنَّ الْمَالَ يَحْتَمِلُهَا فُرُوعِي فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ جِهَةُ الْمَالِ، وَجَازَتْ فِيهِ النِّيَابَةُ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهَا دَيْنُ عَبْدٍ لَسَعَتْ فِي قَضَائِهِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، إنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهَا تَخْلِيصُهُ مِنْ مَأْثَمِ الدَّيْنِ وَعَارِ الِاقْتِضَاءِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْوَى مَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الشَّخْصَ الْمَخْصُوصَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ دَيْنَ اللَّهِ إذَا وَجَبَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، وَالتَّطَوُّعُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِابْتِدَاءِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِهَا: " إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ " وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَا انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا. يُحَقِّقُهُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِإِجْمَاعٍ؛ فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ، وَبِهِ يُبْدَأُ إجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ الْغَرَضُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ مَا ثَبَتَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْبِرِّ حَيَاةً وَمَوْتًا وَقُدْرَةً وَعَجْزًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : ابن العربي    الجزء : 1  صفحة : 379
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست