بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها [1] وقال أبو يعلى في طبقات الحنابلة:
قد أقام ببغداد ثم ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة وخرج بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها [2].
وقد كان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني قد أنهى بناء بغداد وسكنها سنة ست وأربعين ومائة [3] فظلت مركزا للخلافة في عهد المهدي والهادي والرشيد والأمين فغدا أمرا بدهيا أن تظل في حكمهم موطدة الأركان مزدهرة العمران، عزيزة السلطان يكدر صفوها تلك الثورات والهجمات المتوالية بين الحين والآخر.
وكمثال على ذلك نكبة هارون الرشيد سنة سبع وثمانين ومائة للبرامكة ومحوه آثارهم من مدينة دار السلام، وفي ذلك يقول ابن كثير: قتل جعفر بن يحيى البرمكي، ودمر ديارهم، واندرست آثارهم، وذهب صغارهم وكبارهم اه [4]. وهو حدث كبير الخطورة إذ كان للبرامكة من العزة والسلطان عند الرشيد وعامة الناس القدر الذي يضاهي منزلة الخليفة ويكاد يعلو عليه.
على أن أعظم رزية حلت ببغداد محاصرة طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين للخليفة الأمين بدار السلام بأمر من المأمون، وذلك بعد أن نشب النزاع بين الأخوين على إثر نزع الأمين ولاية العهد من أخيه المأمون وجعلها في ابنه موسى.
ولقد أسفر هذا الحصار عن قتل الأمين بعد أن عم الخراب بغداد وأصابها الذعر والجوع، قال ابن كثير يصف تلك الحالة: واشتد الحال على أهل البلد وأخاف الدّعار والشطار أهل الصلاح، وخربت الديار وصارت الفتنة بين الناس حتى قاتل الأخ أخاه للأهواء المختلفة، والابن أباه، وجرت شرور عظيمة واختلفت الأهواء وكثر الفساد والقتل داخل البلد [5]. [1] انظر: تاريخ بغداد 12/ 403. [2] انظر: طبقات الحنابلة 1/ 260. [3] البداية والنهاية 10/ 96. [4] البداية والنهاية 10/ 189. [5] البداية والنهاية 10/ 237، 243.