اسم الکتاب : تفسير الألوسي = روح المعاني المؤلف : الآلوسي، شهاب الدين الجزء : 1 صفحة : 33
السهل، ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أوفر حصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين فكان اجتماع الأمرين فيه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة ومنزلة جليلة وقد خص بذلك القرآن كما لا يخفى [1] على ذوي الفطر السليمة ومن كان له في علم البلاغة إتقان. وأما بيان إعجاز اشتماله على الإخبار بالغيب فلأنه تضمن ما يحكم العرف بكثرته من أخبار القرون الماضية والأمم البادية والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وتتبعه فيورده القرآن على وجهه ويأتي به على نصه، ومن المعلوم أن من أتى به أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله تعالى عليه وسلم مع الإعلام بما في ضمائر كثيرين من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: 122] وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [المجادلة: 8] والإعلان بالحوادث المستقبلة في الأعصار الآتية كقوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: [1]- 4] وأخبار أقوام في قضايا أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله تعالى خطابا لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 94] فما تمناه أحد منهم إلى أضعاف مضاعفة من مثل ذلك قد اشتمل القرآن عليها واختص من بين الكتب بها حتى أن أقصر سورة فيه وهي الكوثر تشير إلى أربعة أخبار عن الغيب مع أنها ثلاث آيات «الأول» في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:
1] إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الأتباع «والثاني» في قوله «وانحر» حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحر فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الإقدام عليه «والثالث والرابع» في قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:
3] حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه اشتمل على توحيد الله تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء الله تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والإنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول.
وما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مصقول الحديد يماني
فهذه الأوجه الأربعة هي الظاهرة في وجه إعجاز القرآن والمشهور عند الجمهور الاقتصار على بلاغته وفصاحته حيث بلغت الرتبة العليا والغاية القصوى التي لم تكد تخفى على أهل هذا الشأن حتى النساء كما يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من امرأة تنشد شعرا فقالت أتعجب من هذا أين أنت من قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] ؟ فقد [1] وقال السكاكي اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن والملاحظة وطيب النغم ولا يدرك تفصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علم المعاني والبيان والتمرن فيهما فليفهم اهـ منه.
اسم الکتاب : تفسير الألوسي = روح المعاني المؤلف : الآلوسي، شهاب الدين الجزء : 1 صفحة : 33