المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام، بل بلغ الأمر بهذا الزاعم أن قال: «إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين فيقول: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.
هكذا يستدل هذا الزاعم بهذه الاستدلالات على ما توهمه من تأثر القرآن بالبيئة واقتباسه منها ... [1].
وهذا في الواقع تجنّ واختلاق، صادر عن سفيه جهول، أو آفك مغرض متحامل حقود، ونورد إلماحات وجيزة لرد هذا الزعم فيما يلي:
1 - إن سمات المكي والمدني الأسلوبية وكذا الموضوعية خاضعة لقضية البلاغة الجوهرية والمسلمة لدى كل ذي إلمام بالبلاغة والبيان عربيا أو غير عربي، وهي مراعاة مقتضى الحال، كما ذكرنا من قبل، لذلك نجد في المكي سورا طوالا بل من أطول الطوال ونجد في المدني سورا قصارا وفيها الآيات والفقرات القصيرة، بل من أقصر القصار، كما في سورة «الفتح» وسورة «الكوثر» وهي أقصر سورة في القرآن وهي مدنية كما ثبت بذلك الحديث الصحيح الذي لا يقاوم.
كذلك نجد في المدني شدة أحيانا، كما في هذه الآيات من مطلع سورة «الصف» المدنية بالاتفاق:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. [1] انظر تفاصيل عبارات هذه الفقرة ومناقشتها في كتاب: مناهل العرفان ج 1 ص 198 - 232 والمدخل إلى دراسة القرآن الكريم لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد