لكن التحقيق أن حديث جابر لا يتحدث عن ابتداء الوحي الأول إنما يتحدث عن أول ما نزل بعد فتور الوحي، وهو هذه الآيات من سورة المدثر، وهي أول ما نزل من القرآن يأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالإنذار.
يدل على ذلك ما ثبت في الحديث نفسه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله الأنصاري في حديثه السابق وفيه قوله: .. فإذا الملك الذي جاءني بحراء» [1].
وليس بخاف ما في هذا الافتتاح لبدء الوحي ب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من الحكمة الجليلة حتى أن الخطباء والكتّاب والأدباء لا يملّون من القول فيها، ومن أن يرددوه في كل مناسبة تقال عن العلم وعن الحضارة، وعن الثقافة وعن القرآن وعن الإسلام، وعن أثر القرآن في تحويل العالم، ولا سيما إذا قارنّا ذلك بما افتتح به كتاب آخر لدى الأمم الأخرى [2].
آخر ما نزل من القرآن الكريم
أقوى الآراء وأرجحها في آخر ما نزل من القرآن مطلقا أنه قوله تعالى:
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
ثبت ذلك من طرق عن عبد الله بن عباس، وروي عن أبي سعيد أيضا.
وقد ورد أنه صلّى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال. [1] انظر ما سبق، ونحوه ثابت عندهما من أكثر من وجه يؤكد ما قلناه، وأما ادعاء أن سورة المدثر نزلت بتمامها جملة واحدة فلا يتلاءم مع ما ذكرناه في سبب نزولها، فإنها أسباب متعددة ومتباعدة في الزمن، وقد نزل لكل سبب منها جملة من آيات من السورة، فضلا عن افتقار هذا القول للدليل المثبت. [2] نلفت النظر هنا للعبارة البليغة التي عبّر بها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله في كتابه إنتاج المستشرقين ص 32 فليرجع إليه.