كثيرا قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فإن هذه السورة تعدد للمنكرين نعم الله عليهم ودلالة كل نعمة على وجوب الانقياد لله تعالى شكرا له، وخضوعا لعظمته، لكنهم كفروا هذه النعم فوضعوها في غير موضعها، وكفروا بالمنعم وأشركوا به غيره فعبدوا الأوثان والشركاء، فجاءت سورة الرحمن تحاجّهم وتحاقّهم بإيقافهم على كل واحدة منها بالحجة الملزمة، وهكذا بالتعداد المفصل لتلك النعم والدلائل حتى تزحزح المعاند عن عناده، وترسّخ في أعماق النفس الشعور بوجوب شكره تعالى، فعقّب ذكر كل واحدة من النعم والدلائل بهذه الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وتارة يكون التكرار مع اختلاف في نظم الجملة، أو إيجاز أو إطناب أو نحو ذلك. وذلك يبرز سرا من أسرار إعجاز القرآن، وهو التعبير عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب دون أن ينال تكرار المعنى من سموّ الأسلوب وإعجازه، بينما لا يخلو كلام البشر في مثل هذا الحال من تفاوت بين الأسلوبين واختلاف مستوى الأداءين. وذلك من جملة تصريف البيان في القرآن الذي ذكره القرآن في مناسبات متعددة، كقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ .. [1] وقوله: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [2].
وحقيقة التصريف: «إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى، خشية تناسي الأول لطول العهد به» [3].
وبهذا التصريف المعجز حقق القرآن هدفا عظيما هو خطاب الناس كافة، من تكفيه الإشارة والموجز من القول، ومن لا يسد خلل فهمه إلا التفصيل وهكذا تنوع أسلوب القرآن.
وقد لفت هذا التصريف المعجز أنظار البلغاء وراحوا يكشفون ما في كل [1] سورة الأنعام، الآية 100. [2] سورة طه، الآية 113. [3] كما قال الزركشي في البرهان ج 3 ص 10.