قال الإمام ابن عطية [1]: لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»، بل هو كما وصفه الله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
الوجه الثالث: خطاب العامة وخطاب الخاصة:
وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك- إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حقها كاملا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم، فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسّر لكل من أراد وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
الوجه الرابع: إقناع العقل وإمتاع العاطفة:
في النفس الإنسانية قوتان قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها: فأما إحداهما فتنقّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى
فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا. [1] في مقدمة تفسيره الجليل «المحرر الوجيز» ج 1 ص 39.