ولقد عرّفنا المنهج القرآنى منذ أربعة عشر قرنا من الزمن ما يجب على المؤمن العارف بربه أن يستعد لآخرته، بإعداد تلك الكنانة التى تحوى الأعمال الصالحة، وأفعال الخير قبل أن يقف بين يدى ربه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: 30].
وإذا نجحت كل تلك الخطوات فى سبيل تحمل المسئوليات، وإسناد الأمر إلى صاحبه القوى الكفيل بإنجاحه بما يملك من قيادة بصيرة، ترى الأمر وتعالجه، وتضع خطواتها على الطريق الأكمل المأمون، البعيد عن المزالق والمخاطر، والمسلح بقوى الإيمان، والمعرفة، وتحمل الصعاب، كان ذلك هو طريق الفوز والنجاح له ولغيره. وقد عبر عن ذلك المعنى مثل عربى قديم له دلالته النافعة فى مثل هذا الموقف، يقول:
8 - عند الصباح يحمد القوم السّرى:
وأصل هذا المثل أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر الصديق، رضى الله عنه، أمر قائده خالد بن الوليد، رضى الله عنه، وهو سيف الله المسلول، أن يسرع إلى معاونة جيش المسلمين بالعراق، وإلى نجدتهم، فأراد خالد أن يجتاز طريق الصحراء اختصارا للوقت، وتلبية لأمر الخليفة، وإحساسا بالمسئولية إزاء هذا العمل الجسيم، فعرض الأمر على معاونيه، فقال له رافع بن عمرو الطائى: لقد سلكتها فى الجاهلية، وتحتاج إلى خمس ليال للإبل الواردة التى شربت وارتوت، فاشترى خالد بن الوليد مائة من الإبل، وعطشها، ثم سقاها الماء حتى رويت، ثم كمم أفواهها، وسلك بها الصحراء، حتى إذا كان اليوم الثالث خاف العطش على الناس، والخيل، فنحر الإبل،
واستخرج ما فى بطونها من الماء، فسقى الناس والخيل، ومضى فى طريقه، حتى إذا كانت الليلة الرابعة، قال رافع: انظروا هل ترون سدرا عظاما، فإن رأيتموها، وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس، فرأوا السدر، فأخبروه، فكبّر، وكبّر الناس، ثم هجموا على الماء، فقال خالد بن الوليد:
لله درّ رافع أنّى اهتدى ... فوّز من قرار إلى سرى
خمسا إذا سار به الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى
عند الصباح يحمد القوم السّرى [1] ... وتنجلى عنهم غيابات الكرى (2) [1] السرى: السير ليلا.
(2) غيابات: ظلمات. الكرى: النعاس.