ولأصحاب هذا المذهب الثاني تأويلات وتحليلات مختلفة، لا نستبعد أن تكون كلها مقصودة كما قال ابن فارس وغيره [1]، إذ هو الشأن الغالب على معظم ألفاظ القرآن: تحتمل اللفظة معاني مختلفة كلها يصلح أن يكون مرادا، إذ كلها مصداق للحقيقة التي تعبّر عنها الآية. وهذا من أبرز مظاهر الإعجاز في القرآن، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
غير أنّا نذكر من هذه التأويلات أقربها إلى النظر وأسرعها إلى الذهن وأكثرها شيعة وأنصارا، فقد ذهب قطرب والفرّاء والمبرّد وعامّة علماء العربية وجمع عظيم من المحققين إلى أن هذه الأحرف المقطعة إنما افتتحت بها السور، لتدل على أن القرآن ليس إلّا كتابا ألّف من هذه الأحرف الهجائية: أ. ب.
ت. ث .. إلخ، هي تلك التي تبنون كلامكم وأشعاركم منها، ومع ذلك فلن تستطيعوا أن تؤلفوا من هذه الأحرف كلاما مثله [2]. ويدلّ على سلامة هذا التفسير ووضوحه أن الكلمة التي تلي هذه الفواتح تحمل معنى الكتاب وتقع في معظم الأحيان موقع الخبر منها كقوله تعالى في سورة البقرة: الم، ذلِكَ الْكِتابُ وفي سورة الأعراف: المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وفي سورة يونس: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وفي سورة هود: الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وفي سورة النمل: طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ.
ولا يبعد أن تكون هذه الأحرف المقطعة تحمل إلى جانب هذه الدلالة أسرارا معينة، وأن تكون قد سيقت مساق القسم بها، وأن يكون موقعها في صدر السورة موقع التنبيه للأسماع والأذهان إلى الكلام الذي يعقبها.
النوع الثاني: جمل وألفاظ
، هي من حيث تركيبها وظاهر دلالتها أمر واضح ومعلوم؛ ولكن فيها إبهاما من حيث الزمن المتعلق بها، أو من حيث تعيين أسماء المشار إليهم فيها، أو من حيث نكارة وغرابة المتحدّث عنه فيها، [1] انظر البرهان: 1 - 180. [2] انظر تفسير القرطبي: 1 - 67، وتفسير الفخر الرازي: 1 - 230، والجامع لأحكام القرآن: 1.
105، والبرهان. 1 - 185.