آية إلا بشاهدين يجتمعان عليها من حيث اللفظ والأداء وهما الحفظ والكتابة، رغم أنه كان هو نفسه في مقدمة حفّاظ القرآن غيبا، فكان في غنىّ عن أن يحمّل نفسه هذا الجهد، ولكن الورع في الدين والحيطة في النقل حمّلاه على أن يضع نفسه- من أجل أنه هو الذي تولى الكتابة- في الموضع الأخير بعد عامّة الصحابة.
وهذا المنهج الشديد الذي اتّبعه زيد، هو الذي يفسر لك معنى قوله أنه لم يجد الآيات الأخيرة من سورة التوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري. فليس معنى كلامه هذا أنه اعتمد في كتابتها على خبر الواحد فقط وهو أبو خزيمة، وإنما هو مزيد في الحيطة منه، فهو لا يكتفي بحفظه وحفظ بقية الصحابة لها باللسان، بل لا يكتفي مما كتب أيضا إلا بالذي كان داخلا منه تحت إشرافه عليه الصلاة والسلام وتولى كتابته أحد كتّاب الوحي أنفسهم. فمن أجل ذلك ظلّ متوقفا عن تسجيل هذه الآيات رغم حفظه لها ورغم وجودها في صدور عامّة الصحابة إلى أن عثر لها على الشاهد الثاني أيضا وهو الكتابة الموثوقة الصحيحة.
قال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا من مجرد الحفظ، قال ولذلك قال في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره- أي غير أبي خزيمة الأنصاري- أي لم أجدها مكتوبة مع غيره. لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة [1].
ثالثا- ما جدّ من ذلك في خلافة عثمان:
وقد ظلّ الأمر على ما قام به أبو بكر رضي الله عنه، مدة خلافته، ثم مدة خلافة عمر رضي الله عنه، وفي صدر من خلافة عثمان رضي الله عنه. إلا أنه حدث بعد ذلك أمر نبّه المسلمين إلى ضرورة وجود نسخ متعددة من هذا المصحف الإمام الذي اعتمده الخلفاء، لتوزيعها في الأمصار وجمع الناس عليها، كي لا يكون للعجمة واللهجات المختلفة سبيل إلى اختلاف الناس في القراءة أو إلى تحريف شيء من القرآن لفظا أو أداء. [1] انظر الإتقان: 1/ 58، وفتح الباري: 9/ 12.