تجمعت هذه الدفعات البشرية مع بعضها لضاقت بها الأرض وفسد نظام الحياة، وتخلّفت الحكمة الكبرى من الإيجاد والخلق. وانظر، فإن في هذه الجملة المختصرة المثيرة للفكر: ويجعلكم خلفاء الأرض، تعبيرا عن هذه الحقيقة كلها، فما أعجب البيان القرآني وما أروع! ...
وتقف هذه الآية أيضا عن الجواب الذي تنطق به الفطرة الإنسانية في أوضح بيان ... ليكرر السؤال المترتب على الجواب المعرف: أإله مع الله؟ وهنا أيضا يحكي حالتهم التي تصدّهم عن الإيمان بالبدهيات، ولكنه لا يقول هذه المرة: بل أكثرهم لا يعلمون، كما ذكر في الآية السابقة، ذلك لأن هذه الدلائل القائمة في فطرة الإنسان وكيانه، لا تحتاج إلى علم مجهول، وإنما تحتاج إلى تذكّر شيء معلوم متلبس بالإنسان نفسه، ولذلك قال: قليلا ما تذكّرون، أي تذكرا قليلا ما تذكّرون: وهو تعبير خاص أريد به عدم التذكّر مطلقا.
* أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
إضراب انتقالي إلى نوع آخر من الأدلة يحاجج بها الجاحدين ويناقشهم.
من المعلوم أن الإنسان يتعرض لتيه من الضلال تتضاءل عنده حيلة الإنسان ويظهر فيه ضعفه في حالتين اثنتين: عند ما يغشيه الظلام المطبق بليل في فلاة، وعند ما يتيه في زرقة لا حدود لها من زرقة البحر والسماء، وما رؤي الإنسان أقرب إلى التعرّف لحقيقة الضعيفة وعبوديته لله عزّ وجلّ، منه في إحدى هاتين الحالتين. فمن الذي يهدي الإنسان في كلّ من هاتين الظلمتين.
ولك أن تفهم من الظلمات معناها الحقيقي وذلك إذ يلتقي تيه كلّ من الفلاة والبحر بظلمة الليل البهيم، وأن تفهم منها معناها المجازي، إذ جعل مفاوز البرّ التائهة ولجج البحار الهائلة كأنها ظلمات مطبقة يضلّ فيها الإنسان ولا يقع على علم يتعلق به أو يهديه.
ومن يرسل الرياح بشرا، أي مقدمة تبشّر بالخير، بين يدي رحمة الأمطار إذ يبعثها الله على الأرض لتخرج ما في بطنها ولتقدّم خيراتها لمن على ظهرها؟