القرّاء في العصر الثاني والثالث كثيري العدد، فأراد الناس ان يقتصروا في العصر الرابع على ما وافق المصحف، فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم، قد طال عمره واشتهر أمره وأجمع أهل مصر على عدالته، فأفردوا من كل مصر وجّه إليه عثمان مصحفا، إماما هذه صفة قراءته على مصحف ذلك المصر، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، كلهم ممّن اشتهرت إمامتهم وطال عمرهم في الإقراء وارتحل الناس إليهم من البلدان [1].
الضابط العلمي لاعتماد القراءات:
وإنما اعتمد العلماء قراءات هؤلاء الأئمة السبعة، بناء على ضابط علمي كان هو الأساس في قبولهم لها واعتمادهم إيّاها، من أين جاءت وإلى من نسبت.
والضابط هو أن كل قراءة صحّ سندها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووافقت خط المصحف العثماني ولو احتمالا، ووافقت العربية بوجه من الوجوه المعتبرة، فتلك هي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحلّ إنكارها سواء نقلت عن الأئمة السبعة أو غيرهم. وما لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة فهي شاذة مردودة لا يقرأ بها أيّا كان الإمام الذي نقلت عنه.
والمقصود بموافقة القراءة لخط المصحف العثماني ولو احتمالا، أن تكون أصول الكتابة والرسم التي كتب بها المصحف العثماني مما يحتمل القراءة ويقبلها بوجه من الوجوه ولو تقديرا، كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ففي مالِكِ قراءتان: القصر «ملك» والمدّ «مالك» ورسم المصحف العثماني (ملك) موافق لقراءة القصر تحقيقا، وموافق لقراءة المدّ تقديرا، إذ المدود وحذفها مما تتحمله أصول الرسم. ومثل ذلك يخادعون ويخدعون في قوله تعالى:
يخادعون الله وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون فقد قرئ بالمدّ [1] البرهان: 1 - 829 و 330.