اسم الکتاب : دلائل الإعجاز - ت الأيوبي المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 254
فصل: في المجاز الحكمي
في المجاز الحُكْمي هذا فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم
إِعلم أنَّ طريقَ المجازِ والاتساع في الذي ذكَرْناه قبلُ، أنَّكَ ذكرتَ الكلمةَ وأنتَ لا تُريد معناها، ولكنْ تُريد معنىً ما هو رِدْفٌ له أو شبيهٌ، فتجوَّزْتَ بذلك في ذاتِ الكلمةِ وفي اللفظ نفسِه. وإذْ عرفْتَ ذلكَ، فاعلمْ أنَّ في الكلام مجازاً على غير هذا السبيلِ، وهو أن يكونَ التجوُّزُ في حُكْم يَجْري على الكلمة فقط، وتكون الكلمةُ متروكةً على ظاهرِها، ويكونُ معناها مقصوداً في نفسه ومراداً، مِنْ غَير توريةٍ ولا تَعْريض. والمثالُ في قولهم: (نهارُك صائمٌ وليلُك قائم، ونام ليلي وتجلّى همي). وقولُه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وقولُ الفرزدق [من الطويل]:
سقاها خُروقٌ في المَسامِع لم تَكُنْ ... عِلاطاً ولا مخبوطةَ في المَلاغِمِ
أنتَ ترمي مجازاً في هذا كلِّه، ولكنْ لا في ذوات الكَلِم وأنْفُس الألفاظِ ولكنْ في أحكامٍ أُجْرِيَتْ عليها. أفلاَ تَرى أنك لم تتجوَّز في قولك: (نهارُكَ صائم وليلُك قائم)، في نفس (صائم وقائم) لكنْ في أنْ أجْرَيْتَهما خَبَرَيْنِ على النهار والليل. وكذلك ليس المجازُ في الآية في لفظة "ربحت" نفسِها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكْم في قوله: (سقاها خُروق): ليس التجوُّزُ في نَفْس "سقاها" ولكنْ في أن أسْنَدَها إلى (الخُروق). أفلا ترى أنك لا تَرى شيئاً منها إلاَّ وقد أريدَ به معناه الذي وُضِع له على وجهِه وحقيقتِه؟ فلم يُرِدْ (بصائم) غيرَ الصَّوْمِ، ولا (بقائم) غيرَ القيام، ولا بـ (ـربحتْ) غيرَ الربح ولا بـ (ـسَقَتْ) غيرَ السقي، كما أُريدَ بِ (سالَتْ) في قوله [من الطويل]:
وسالت بأعناق المطيِّ الأباطِحُ
غيرَ السَّيْلِ.
واعلمْ أنَّ الذي ذكرتُ لك في المجاز هناك، من أنَّ مِنْ شأنِه أنْ يفْخُمَ عليه المعنى، وتحدُثَ فيه النباهةُ، قائمٌ لك مثلُه ههنا. فليس يَشْتَبِه عَلى عاقلٍ أنْ ليس حالُ المعنى وموقعُه في قوله [من الرجز]:
فنامَ ليلي وتجلَّى همِّي
كحالِه وموقِعِه، إذا أنتَ تركْتَ المجاز وقلتَ: (فنمتُ في ليل وتجلَّى همِّي) كما لم يكنِ الحالُ في قولكُ: (رأيتُ أسداً): كالحالِ في "رأيتُ رجلاً كالأسدِ". ومَنْ الذي يَخْفى عليه مكانُ العُلُوِّ وموضِعُ المزية وصورةُ الفرقان بين قولِه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وبين أنْ يُقال: (فما رَبحوا في تجارتهم)؟ وإنْ أردْتَ أن تزْدادَ للأمر تبييناً، فانظرْ إلى بيت الفرزْدق [من الكامل]:
يَحْمي، إذا اختُرِطَ السيوفُ نِساءَنا ... ضَرْبٌ تطيرُ له السواعدُ أرعَلُ
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز - ت الأيوبي المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 254