اسم الکتاب : دلائل الإعجاز - ت الأيوبي المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 163
باب الحذف ونكته فصل: القول في الحذف - المبتدأ
هو باب دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر؛ فإنكَ ترى به تَرْكَ الذكر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإفادة؛ وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تُبِنْ؛ وهذه جملةٌ قد تُنْكِرُها حتى تَخْبُرَ، وتَدْفعهُا حتى تَنْظُرَ.
وأنا أَكتبُ لك بَديئاً أمثلةً مما عَرَضَ فيه الحذفُ، ثم أُنبهُكَ على صحة ما أشرتُ إليه، وأُقيمُ الحجَّةَ من ذلك عليه، صاحب الكتاب [من البسيط]:
اعتاد قلبَكَ مِنْ لَيلى عَوائدُه ... وهاجَ أهواءَكَ المكنونةَ الطَّللُ
رَبْعٌ قَواءٌ أذاعَ المُعْصِراتُ به ... وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤهُ خَضِلُ
قال: أراد: ذاكَ رَبْعُ قَواء، أو هو رَبْعٌ: قال، ومثْلُه قولُ الآخر [من البسيط]:
هل تَعرفُ اليومَ رسْمَ الدارِ والطَّلَلا ... كما عرَفْتَ بجَفْن الصَّنيقَلِ الخِلَلاِ
دارٌ لِمَرْوةَ إذْ أهلي وأَهلُهُمُ ... بالكانسيةِ نرْعى اللَّهْو والغَزَلا
كأنه قال: تلك دارٌ: قال شيخُنا رحمه الله: ولم يَحمل البيتُ الأولُ على أنَّ (الربع) بَدَلٌ من (الطلل) لأنَّ الرَّبْع أكثرُ من الطلل؛ والشيء يُبدَلُ مما هو مِثلُه أو أكثرُ منه، فأما الشيء مِنْ أَقلَّ منه، ففاسدٌ لا يُتَصور. وهذه طريقةٌ مستمرة لهم، إذا ذكَروا الديارَ والمنازل. وكما يُضْمِرون المبتدأَ فيرفعون، فقد يُضْمرون الفِعْل، فيَنْصبونَ، كبيت الكتاب أيضاً [من البسيط]:
ديارَ ميَّة إذْ ميٌّ تُسَاعِفُنَا ... ولا يَرى مثْلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ
أَنْشَدهُ بنَصْبِ "ديار" على إضمار فعل، كأنه قال: أذكرُ ديارَ مية.
ومن المواضع التي يَطَّردُ فيه حذفُ المبتدإ: القطعُ والاستئنافُ؛ يبدأون بذكْرِ الرَّجل ويُقدِّمون بعضَ أَمْره، ثم يدَعون الكلامَ الأولَ ويَستأنفون كلاماً آخر. وإذا فعَلوا ذلك أتوْا في أكثر الأمر، بخبَرٍ من غَير مبتدإ. مثال ذلك قوله [من مجزوء الكامل]:
وعلمتُ أني يوم ذا ... كَ مُنازلٌ كعباً ونهدا
قَومٌ إذا لبسوا الحديـ ... ـدَ تَنمَّرُوا حَلَقاً وقِدَّا
وقوله من [الوافر]:
همُ حَلُّوا من الشَّرفِ المُعَلَّى ... ومِنْ حَسَب العَشيرةِ حيث شاؤوا
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز - ت الأيوبي المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 163