فأما قوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} [1] فقيل غير باغ على الإِمام وقيل غير باغ في أكله فوق حاجته، ولم يحملها أحد من السلف على الجميع فليس لهم حملها على أحدهما إلا ولغيرهم خلافه. ويستدل أيضًا من منع القصر بأن الطاعة لها تأثير في القصر في مسافة لا يقصر فيها في غيرها من الأسفار كما قدمناه في قصر الخارج إلى مني وعرفة فيقتضي هذا كون المعصية مؤثرة حتى تمنع القصر في سفر يجوز فيه القصر لو تجرد عن المعصية. وأما المبيحون للترخص برخص السفر وإن كان معصية فيحتجون بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [2]. فأطلق السفر ولم يقيده بكونه طاعة. وتقييده بعد إطلاقه في القرآن كالزيادة على النص. والزيادة على النص نسخ عند طائفة من أهل الأصول. والنسخ لا يكون في مثل هذا بالقياس، والاستدلال. وقد قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [3]. فأشار في هذا إلى إباحة أكل الميتة عند الضرورة ولم يقيد بأن لا يكون المضطر عاصيًا بسفره.
ويتأول هؤلاء قوله تعالى في الميتة *في الآي الآخر* [4]: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد}. أن المراد به ألا يطلب الميتة قصدًا إليها ولا ياكلها بحسب اقتضاء الشهوة بل بحسب اقتضاء الضرورة.
ولا يعدو واجد ما يسد رمقه ولا يبغي فيتجاوز ذلك. ويكون هذا عندهم كالصفة للأكل في الضرورة لا صفة للمضطر. ألا ترى أنه قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كفور رحيم}. والمضطر لا يتحمل مع اضطراره ذنب [5] فيغفر وإنما الغفران في مقابلة ارتكاب المحظور وذلك في الأكل الذي يرتكبه ويكتسبه. لكن عُذر فيه لأن الضرورة دعته إليه.- وينفصل هؤلاء عما تمثل به هؤلاء الأولون بأن الرخص علقت *بالسفر للسفر يكون سفرا* [6] لا بنفس الخطى إذ لا يكون نفس الخطى سفرًا إلا إذا كانت على صفات ولا تأثير للمعصية في كون السفر سفرًا [1] سورة البقرة، الآية: 173. [2] سورة البقرة، الآية: 184. [3] سورة الأنعام، الآية: 119. [4] ساقط من -و-. [5] هكذا في النسختين والصواب ذنبًا. [6] هكذا في -و- ولعل الصواب. علقت بالسفر والسفر لا يكون سفرًا بنفس الخطى.