responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 90
وَفِي ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ مَعَارِفُ النَّاسِ وَهِمَمُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ، فَأَعْرَفُهُمْ مَنْ كَانَ عَارِفًا بِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَأَرْشَدُهُمْ مَنْ آثَرَ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ، كَمَا أَنَّ أَسْفَهَهُمْ مَنْ عَكَسَ الْأَمْرَ.
وَالْمَعَاصِي تَخُونُ الْعَبْدَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى نَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْعِلْمِ، وَإِيثَارِ الْحَظِّ الْأَشْرَفِ الْعَالِي الدَّائِمِ عَلَى الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْأَدْنَى الْمُنْقَطِعِ، فَتَحْجُبُهُ الذُّنُوبُ عَنْ كَمَالِ هَذَا الْعِلْمِ، وَعَنْ الِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَأَنْفَعُ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ.
فَإِذَا وَقَعَ مَكْرُوهٌ وَاحْتَاجَ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، خَانَهُ قَلْبُهُ وَنَفْسُهُ وَجَوَارِحُهُ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مَعَهُ سَيْفٌ قَدْ غَشِيَهُ الصَّدَأُ وَلَزِمَ قِرَابَهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْجَذِبُ مَعَ صَاحِبِهِ إِذَا جَذَبَهُ، فَعَرَضَ لَهُ عَدُوٌّ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَوَضَعَ يَدِهِ عَلَى قَائِمِ سَيْفِهِ وَاجْتَهَدَ لِيُخْرِجَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ، فَدَهَمَهُ الْعَدُوُّ وَظَفِرَ بِهِ.
كَذَلِكَ الْقَلْبُ يَصْدَأُ بِالذُّنُوبِ وَيَصِيرُ مُثْخَنًا بِالْمَرَضِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْعَبْدُ إِنَّمَا يُحَارِبُ وَيُصَاوِلُ وَيُقْدِمُ بِقَلْبِهِ، وَالْجَوَارِحُ تَبَعٌ لِلْقَلْبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَلِكِهَا قُوَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِهَا؟
وَكَذَلِكَ النَّفْسُ فَإِنَّهَا تَخْبُثُ بِالشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي وَتَضْعُفُ، أَعْنِي النَّفْسَ الْمُطْمَئِنَّةَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَّارَةُ تَقْوَى وَتَتَأَسَّدُ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ هَذِهِ ضَعُفَتْ تِلْكَ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ لِلْأَمَّارَةِ.
وَرُبَّمَا مَاتَتْ نَفْسُهُ الْمُطْمَئِنَّةُ مَوْتًا لَا يُرْتَجَى مَعَهُ حَيَاةٌ يَنْتَفِعُ بِهَا، بَلْ حَيَاتُهُ حَيَاةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْأَلَمَ فَقَطْ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَقَعَ فِي شِدَّةٍ أَوْ كُرْبَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ خَانَهُ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَوَارِحُهُ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهُ، فَلَا يَنْجَذِبُ قَلْبُهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ لِذِكْرِهِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَيَنْحَبِسُ الْقَلْبُ عَلَى اللِّسَانِ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ الذِّكْرُ، وَلَا يَنْحَبِسُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ عَلَى الذِّكْرِ، بَلْ إِنْ ذَكَرَ أَوْ دَعَا ذَكَرَ بِقَلْبٍ لَاهٍ سَاهٍ غَافِلٍ، وَلَوْ أَرَادَ مِنْ جَوَارِحِهِ أَنْ تُعِينَهُ بِطَاعَةٍ تَدْفَعُ عَنْهُ لَمْ تَنْقَدْ لَهُ وَلَمْ تُطَاوِعْهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ أَثَرُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَنْ لَهُ جُنْدٌ يَدْفَعُ عَنْهُ الْأَعْدَاءَ، فَأَهْمَلَ جُنْدَهُ، وَضَيَّعَهُمْ، وَأَضْعَفَهُمْ، وَقَطَعَ أَخْبَارَهُمْ، ثُمَّ أَرَادَ مِنْهُمْ عِنْدَ هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْرِغُوا وُسْعَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ بِغَيْرِ قُوَّةٍ.
هَذَا، وَثَمَّ أَمْرٌ أَخْوَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَدْهَى مِنْهُ وَأَمَرُّ، وَهُوَ أَنْ يَخُونَهُ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ عِنْدَ

اسم الکتاب : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 90
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست