responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 184
أَطْيَبَ وَلَا أَنْعَمَ وَلَا أَهْنَأَ مِنْهَا، وَهِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سُورَةُ النَّحْلِ: 97] .
لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْحَيَاةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَمِنْ طِيبِ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ، بَلْ رُبَّمَا زَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي ذَلِكَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا أَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَأَيُّ حَيَاةٍ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ كُلُّهَا وَصَارَتْ هَمًّا وَاحِدًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ؟ وَلَمْ يَتَشَعَّبْ قَلْبُهُ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ، وَاجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ وَأَفْكَارُهُ الَّتِي كَانَتْ مُتَقَسِّمَةً بِكُلِّ وَادٍ مِنْهَا شُعْبَةٌ عَلَى اللَّهِ، فَصَارَ ذِكْرُهُ بِمَحْبُوبِهِ الْأَعْلَى وَحُبُّهُ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ تَدُورُ هُمُومُهُ وَإِرَادَتُهُ وَقُصُودُهُ بِكُلِّ خَطَرَاتِ قَلْبِهِ، فَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وَإِنْ سَمِعَ فَبِهِ يَسْمَعُ، وَإِنْ أَبْصَرَ فَبِهِ يُبْصِرُ، وَبِهِ يَبْطِشُ، وَبِهِ يَمْشِي، وَبِهِ يَسْكُنُ، وَبِهِ يَحْيَا، وَبِهِ يَمُوتُ، وَبِهِ يُبْعَثُ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: " «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، كَتَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ".»
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ الْإِلَهِيُّ - الَّذِي حَرَامٌ عَلَى غَلِيظِ الطَّبْعِ كَسِيفِ الْقَلْبِ فَهْمُ مَعْنَاهُ وَالْمُرَادُ بِهِ - حَصْرَ أَسْبَابِ مَحَبَّتِهِ فِي أَمْرَيْنِ: أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ.
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ أَحَبُّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، ثُمَّ بَعْدَهَا النَّوَافِلُ، وَأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَزَالُ يُكْثِرُ مِنَ النَّوَافِلِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ، فَإِذَا صَارَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ لَهُ مَحَبَّةً أُخْرَى مِنْهُ فَوْقَ الْمَحَبَّةِ الْأُولَى، فَشَغَلَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ عَنِ الْفِكْرَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، وَمَلَكَتْ عَلَيْهِ رُوحَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ سِعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ أَلْبَتَّةَ، فَصَارَ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ وَحُبُّهُ وَمَثَلُهُ الْأَعْلَى، وَمَالِكًا لِزِمَامِ قَلْبِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَى رُوحِهِ اسْتِيلَاءَ الْمَحْبُوبِ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّادِقِ فِي مَحَبَّتِهِ، الَّتِي قَدِ اجْتَمَعَتْ قُوَى مَحَبَّةِ حُبِّهِ كُلُّهَا لَهُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمُحِبَّ إِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِمَحْبُوبِهِ، وَإِنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وَإِنْ مَشَى مَشَى بِهِ، فَهُوَ فِي قَلْبِهِ وَمَعَهُ وَأَنِيسُهُ وَصَاحِبُهُ، فَالْبَاءُ هَاهُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ مُصَاحَبَةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا، وَلَا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا وَالْعِلْمِ بِهَا، فَالْمَسْأَلَةُ حَالِيَّةٌ لَا عِلْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ.

اسم الکتاب : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 184
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست