اسم الکتاب : تلخيص الخطابة المؤلف : ابن رشد الحفيد الجزء : 1 صفحة : 81
وأَما الشيوخ الذين تجاوزوا سن الكهولة فهم على كثير من أَضداد أَخلاق الشباب، أَعني الأَخلاق السخيفة والشكسة. وأَعني بالسخيفة المنسوبة إِلى الضعف من محبة الهزل والمزاح وتشوق الشهوات البدنية والرحمة للناس والانخداع؛ وأَعني بالشكاسة الأَخلاق المنسوبة إِلى القوة مثل سرعة الغضب والجرأَة ومحبة الكرامة والغلبة وامتداد الأَمل وكبر النفس وركوب الظلم وسائر هذا النوع. وإِنما كان الشيوخ على ضد هذه الأَخلاق، لأَنهم عاشوا دهرا طويلا فقصر أَملهم، واختدعوا كثيرا وأَخطأُوا كثيرا، فساء ظنهم بالناس لوقوعهم على أَسباب الخدع والخطأ بالتجارب. وأَكثر الأَفعال الواقعة بهم كانت كلها شروراً أَو مفضية إِلى الشر. ومن أَخلاقهم أَنهم لا يشكون في الشيءِ فيما بينهم وبين أَنفسهم ولا يتعجبون من شيء ورد عليهم ولا يستعظمونه، لأَنه قد تكرر عليهم. وهم مع أَنهم قد جربوا كل شيء كأَنهم لا يعرفون شيئا. ولا يكترثون بالحمد والذم، لأَن قصدهم الحقائق، مع أَنهم لا يستطيعون شيئا. ومن شيمهم أَنهم لا يحزمون على شيء أَلبتة ولا يقطعون عليه بل يقرنون بكلامهم أَبداً (عسى) و (لعل) ، وذلك لكثرة خطأهم ولكثرة ما جربوا من إِخفاق آمالهم. وهم سيئة أَخلاقهم لسوء ظنهم بكل شيء. وسوء ظنهم لقلة تصديقهم؛ وقلة تصديقهم لكثرة تجاربهم. ومن شيمهم أَنهم لا يحبون جدا ولا يبغضون جدا ولا يظهرون ذلك إِلا بالكُره وعند الاضطرار، أَعني الحب والبغض. والحبيب والبغيض عندهم كأَنه في صورة واحدة لدهائهم، وذلك للأُمور التي قيلت من أَنهم عاشوا دهرا طويلا واختدعوا كثيرا وأَخطأُوا كثيرا وأَشباه ذلك. وهم صغيرةٌ أَنفسهم متهاونون بالأَشياءِ العظام لا يشتاقون إِلى شيء سوى ما فيه المعاش. وهم غير ذوي منحة وتكرم، لأَن متاع الدنيا من الأَشياءِ التي بهم إِليها ضرورة، وأَعني بمتاع الدنيا الأَشياء الضرورية في هذه الحياة. وإِنما صار لهم ذلك لكثرة التجربة. وأَيضا فإِنهم يرون أَن الاقتناءَ عسير والتلف يسير، فهم لهذين الشيئين بخلاء، أَعني لوقوفهم بالتجربة على أَن الأَشياء النافعة في هذه الحياة بهم ضرورة إِليها، وبخاصة لضعف أَبدانهم، ولوقوفهم بها على أَن الاقتناءَ عسير، وبخاصة في سن الشيخوخة، وأَن التلف يسير. وهم يسبقون، فيخبرون بما هو كائن لمعرفتهم بالعواقب. ولهذا كانوا جبناء وهم في هذا على خلاف ما عليه الأَحداث لأَنهم ذوو برودة في أَمزجتهم وفتور، والفتيان ذوو حرارة وتوقد. والشيخوخة تؤدي إِلى الجبن لأَن الخوف والجبن تابع للبرد. وهم محبون للحياة لا سيما عند آخر أَعمارهم. وحبهم للحياة ليس هو ليتمتعوا من الشهوات فيها، بل لأَن يحيوها فقط، لأَن أَسباب الشهوات قد عدموها، اللهم إِلا شهوة الطعام من بين شهوات سائر الحواس فإِنها توجد فيهم كثيرة. لأَن الطعام ضروري لهم، فيجتمع لهم مع اللذة به الضرورة. وهم محبون لأَخيار الملوك وعدول السلاطين لصغر أَنفسهم الذي السببُ فيه ضعفُ نفوسهم. وعشرتهم للناس وقصدهم إِنما هو نحو النافع لا نحو الحسن، لأَنهم محبون لأَنفسهم. والنافع هو الشيءُ الذي هو خير للمرءِ في نفسه؛ والحسن هو ما هو خير للغير. وهم قليلٌ حياؤهم. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن إِيثارهم للنافع هو أَكثر من إِيثارهم للجميل. والحياءُ إِنما يكون مخافة فوت الجميل. وتأميلهم يسير لكثرة تجاربهم أَن أَكثر الأَشياء يؤول إِما إِلى الشر، وإِما إِلى ما شره أَكثر من خيره، وإِما لما خيره مساوٍ لشره. وكل هذه الثلاثة الأَقسام غير متشوقة. والأَشياءُ التي هي خير محض، أَو الخير فيها أَغلب، قليلة الوجود، ويحتاج - في ترقب وجودها - إِلى زمان طويل، والذي بقي من أَعمار الشيوخ يسير. وأَكثر عيشهم ولذتهم إِنما هو بالذكر لا بالأَمل، بضد ما عليه الأَمر في الشباب. وذلك أَن الذكر إِنما يكون لما مضى. والشيوخ فقد ذهب أَكثر أَعمارهم. ولهذا تكون منهم جودة التكهن والحدس على ما يكون. وغضبهم سريع حديد لقلة احتمالهم، لكنه ضعيف، لضعف حرارتهم. وشهواتهم منها ما قد انقطع، ومنها ما قد ضعف، فليسوا متحركين نحو الشهوات، لكن نحو النافع. فلذلك قد يظن بهم العفة لانقطاع شهواتهم، وإِنما هم أَعفاء باشتراك الاسم. ويقلقون من طلب الأَفضل وإِنما وُكْدهم الضروري. وأَكثر إِشارتهم بالأَشياءِ التي تحصل الفضيلة
اسم الکتاب : تلخيص الخطابة المؤلف : ابن رشد الحفيد الجزء : 1 صفحة : 81