اسم الکتاب : تلخيص الخطابة المؤلف : ابن رشد الحفيد الجزء : 1 صفحة : 71
وأَما أَصناف الناس الذين يوجد لهم هذا الانفعال كثيرا، أَعني الحياءَ، فمنهم الذين يعتقدون في أَنفسهم أَنهم واحد من الأَصناف الذين ذكرنا أَنه يستحى منهم مثل المتعجب منهم. والمتعجبون الذين ذكرنا أنَه يستحى منهم فإِنه متى اعتقد إِنسان في نفسه أَنه واحد من هذين بادر إِليه الخجل من أَدنى شيء مخافة أَن ينقص في عين الذي يتعجب منه، إِن كان يعتقد في نفسه أَنه يتعجب منه. وأَما المتعجب من غيره فإِنما يسارع إِليه الخجل بسبب أَن المتعجب من كل شيءٍ يعظم عنده كل شيءٍ فهو يتأَثر عن القبيح اليسير ويخاف منه ما لا يخاف كثير من الناس. ومن هذا الصنف من الناس، أَعني الذين يسرع إِليهم الحياءُ، الناس الذين يهوون أَن يكونوا عند غيرهم متعجبا منهم. والذين يحتاجون إِلى الناس في ضرورات أَحوالهم يستحيون كثيرا.
قال: وقد يسرع الحياءُ إِلى الصنف من الناس الذين ليسوا بمحمودين في الغاية ولا مذمومين، لأَنهم يخافون أَن يسارع إِليهم الذم. وهؤلاءِ هم محمودون بقدر ما؛ فإِن الحياءَ ليس يكون ممن ليس بمحمود أَصلا.
قال: والإِنسان إِنما يستحي أَكثر ذلك حيث يكون الذي يستحي منهم ينظرون إِليه.
قال: ولذلك لما أَراد فلان أَن تشتد أَنفة فلان لرجلين مشهورين عندهم من قبل الخزي والعار الذي يلحقه في التواني في المحاماة عن اليونانيين أَوهمه أَن اليونانيين قيام ينظرون إِليه ولم يجْترئ أَن يقول له إِن هذا سيصل إِلى اليونانيين، وإِنما فعل هذا لتشتد أَنفته في المحاماة. ولذلك ما كان ذوو الأَنفة والحمية إِذا امتعضوا لإِنسان ما أَو لناس ما في ضيم جرى عليهم يتشوقون إِلى أَن يرى امتعاضهم الذين امتعضوا لهم حيث جرى عليهم ذلك الضيم وخاب ظنهم في الظفر بالذي أَجرى عليهم ذلك الضيم، أَعني ضيم الذين ضيموا.
قال: وما أَعجب ما يظهر من ذوي الحمية والأَنفة عند الأَفعال التي يستحى منها وذلك في الأَمور التي تلحقهم أَو تلحق آباءهم أَو تلحق من يتصل بهم، وبالجملة من يستحيون بسببه وهم الناس الذين ذكرنا. وكذلك تظهر منهم الأَفعال العظيمة في النصرة والمحاماة للذين ينسبون إِليهم مثل المعلمين لهم أَو المشيرين عليهم أَو المسودين لهم وكل من يشبه هؤلاءِ ممن يحبون أَن يكموه فما أَكثر ما يفعل ذوو الحمية والأَنفس الكبار في أَمثال هذه المواطن، ولا يغفلون عن شيء يوجب النصرة حتى (لا) يلحقهم عار من أَجل توانيهم في ذلك. وأَكثر ما يكون هذا الفعل منهم إِذا توهموا أَن أُولئك الذين امتعضوا لهم قيام ينظرون إِليهم وأَنهم لا يزالون يترددون بينهم، فيتكرر الخزي والحياء منهم فيما توانوا فيه ووقعوا فيه من القبيح.
قال: ولذلك لما قَدَّم ملك من ملوك التَّغَلُّب الذين كانوا في اليونانيين قوما منهم إِلى القتل وكان في جملتهم شاعر منهم، قال لهم حين ستروا وجوههم وأَستحيوا من العار الذي لحقهم في قتله صبراً! إِنما كان يجب لكم أَن تفعلوا ذلك، يعني ستر وجوههم والحياء من هذا الفعل، لو كنتم غدا وبعد غد تترددون حتى ينظر إِليكم اليونانيون مرة بعد مرة. وأَما وأَنتم مفقودون في هذه الحال ولا تخافون أَن تنظروا بعد إِلى اليونانيين، فما يجب لكم أَن تستحيوا.
قال: فهذه جملة ما قيل في الحياءِ. وأَما القول في الوقاحة فمعلوم أَنا نقدر على معرفته من الأَشياءِ التي قيلت في باب الحياءِ إِذ كانت هي أَضدادها، يعني أَنا نعلم في الوقاحة الأَشياءَ الثلاثة المضادة للأَشياءِ الثلاثة التي علمناها في باب الحياءِ، أَعني ممن يستحي ومَن الذي يستحي ومِن أَي الأَشياءِ يكون الحياء.
القول في إِثبات المنة
وشكرها وفي إِنكارها وكفرها
قال: فأَما معرفة من هو ممتن عليه وهو الذي يجب عليه الشكر، وما الأَشياءُ التي هي مننٌ، ومَن الناس الذين يمتنون، وهي المواضع الثلاثة التي منها يثبت الخطيب المنة، فنحن مبينون ذلك فنقول:
اسم الکتاب : تلخيص الخطابة المؤلف : ابن رشد الحفيد الجزء : 1 صفحة : 71