اسم الکتاب : تاريخ الفلسفة الحديثة المؤلف : يوسف مكرم الجزء : 1 صفحة : 38
الوجود. تنقسم معارفنا إلى حسية وعقلية، فلمعرفتنا مصدران هما التجربة والاستدلال. وقد ارتاب معظم القدماء في صدق إدراك الحواس، وقال الشكاك: إن الموضوع المدرك بالحس ما هو إلا انفعال الحس، فكيف يسوغ إضافته إلى شيء خارجي، وقد تكون الذات المفكرة علة له وهي لا تدري؟ الجواب: أن الحس الباطن يظهرني على وجودي بصفة مباشرة لا تحتمل الشك. وهنا يستشهد كمبانيلا بالقديس أوغسطين، وكانت فكرة إقامة العلم على الشعور المباشر موجودة عند نقولا دي كوسا ومونتني وغيرهما من رجال عصر النهضة، وأعلن عنها ديكارت في كتابه "مقال في المنهج" المنشور سنة 1637. والحس الباطن يظهرني على نفسي أني قادر عارف مريد، وأني محدود المعرفة والقدرة، فأستنتج أن هناك وجودًا يحدني أي: عالمًا مغايرًا لذاتي، ويصح عندي هكذا بالاستدلال ما يصدر عني طبعًا قبل أي تفكير, أعني الاعتقاد بعالم خارجي هو علة إدراكي الحسي. والمطابقة بين الإدراك الحسي وذات الشيء لازمة من كونهما صادرين "وكون الأشياء جميعًا صادرة" عن أصل واحد.
د- تلك الأمور الثلاثة التي يظهرني عليها الشعور، وهي القدرة والعلم والإرادة، هي المبادئ الكلية أو الشروط الأولية للوجود، ويستدل عليها بالعقل فإنه لكي يحصل الموجود على الوجود، يلزم أن يكون ممكن الوجود أو أن تكون له القدرة على أن يوجد، وأن يكون هناك مثال يتحقق الموجود بحسبه من حيث إنه بغير العلم لا يفعل فاعل، وأن يكون هناك إرادة تحققه. فالنظر في الموجود المدرك يؤدي بنا إلى موجد هو الموجود الأعظم أو الله، حاصل على غاية القدرة والعلم والإرادة، بينما سائر الموجودات، الملائكة والنفس الكلية والنفوس الإنسانية والأجسام، تشارك فيها على حسب مكانها من كمال الله؛ لأنها جميعًا فاعلة، بحيث يلزم أن الوجود كله حي، أي: إن في كل موجود قدرة أولية هي القدرة على تحريك الذات أو الحياة، وهذه القدرة مفروضة في القدرة على تحريك أي شيء, ويلزم أن في كل موجود علمًا أوليًّا هو علمه بذاته؛ ولكن هذا العلم كامن متفاوت؛ ونحن مشغولون عنه بالمؤثرات الخارجية التي ترد علينا باستمرار والتي لا محيص لنا عن الالتفات إليها لصيانة حياتنا. فليس هذا العلم الأولي شعورًا بالفعل، وإنما هو إمكان شعور؛ لذا كنا لا ندرك أنفسنا إدراكًا مباشرًا، وإنما
اسم الکتاب : تاريخ الفلسفة الحديثة المؤلف : يوسف مكرم الجزء : 1 صفحة : 38