اسم الکتاب : موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية المؤلف : المسيري، عبد الوهاب الجزء : 1 صفحة : 149
وقد يبدو هذا الحديث الفلسفي وكأنه غير ذي صلة بالتاريخ المتعيِّن. ولكن الأمر ليس كذلك، فهناك من يرى أن قيام النازية بإبادة الملايين (من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعوقين ومن المسنين) ممن صُنِّفوا باعتبارهم "أفواهاً مستهلكة غير منتجة" (بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters) إنما هو أحد إنجازات العقلانية المادية التي "حرَّرت" النازية من أية أعباء أخلاقية مثالية (غير مادية) وتعاملت مع البشر بكفاءة بالغة وبمادية صارمة كما لو أنهم مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة/المادة، فمن يحيد عنها (مثل الأطفال المعوقين والرجال المسنين) لابد من التخلص منه في أسرع وقت وبأكثر الطرق كفاءة. أي أن العقل المادي هنا قام بتفكيك البشر بصرامة بالغة وكفاءة مدهشة، ونظر للجميع بعيون زجاجية وكأنه كمبيوتر متألِّه، يبلغ الغاية في الذكاء، لا قلب له ولا روح، يُحيي ويُميت.
ويمكننا القول بأن هناك نمطاً من الحكام الإرهابيين الثوريين لا يختلفون كثيراً عن هتلر ويدورون في إطار العقلانية المادية؛ مثل روبسبيير الذي قام بتفكيك البشر في إطار «مصلحة الشعب» التي يقررها هو، فأباد الملايين من غير النافعين، ومثل ستالين الذي قام بتفكيكهم في إطار علاقات الإنتاج ومعدلات النمو فأباد ملايين الفلاحين (الكولاك) الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج المادية الحتمية. ويرى بعض مؤرخي الثورات التي تدور في إطار النماذج العقلانية المادية أن ظهور مثل هذا الكمبيوتر المتأله مسألة حتمية، وأنه قد يأخذ (بعد استقرار الثورة وتحوُّلها إلى مؤسسات) شكل لجان خبراء ومستشارين. بل يرون أن هذه ظاهرة حتمية لصيقة بالمجتمعات الحديثة التي تُعرِّف النمو والتقدم والإنسان من منظور عقلاني مادي، وأن التكنوقراطية ونظريات التلاقي ووحدة العلوم والاتجاه نحو التنميط والكوكلة والعولمة إنما هي تعبير عن هذا الاتجاه.
اسم الکتاب : موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية المؤلف : المسيري، عبد الوهاب الجزء : 1 صفحة : 149