اسم الکتاب : مذاهب فكرية معاصرة المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 393
كالملائكة؛ لأن له جسدا لا يستطيع أن يتخلص من وجوده، وعقلا لا يكف تماما عن التفكير. انظر إلى أعلى لحظة وجود عرفها بشر في تاريخ الأرض، لحظة الوحي المتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل كان -صلى الله عليه وسلم- روحا خالصة وهو يصافح جبريل عليه السلام ويتلقى منه. استمع إلى قوله تعالى:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [1].
فقد تحرك العقل وتحرك اللسان، خوفا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفوته حفظ شيء من التنزيل الرباني، فطمأنه الله أنه لن يضيع منه شيء؛ لأنه سبحانه وتعالى هو المتكفل بحفظه وجمعه وقرآنه "أي: قراءته" وبيانه.
هذا هو الإنسان بعنصريه المكونين له: قبضة الطين ونفخة الروح.
وكل محاولة لتفسيره بواحد من عنصريه دون الآخر هي محاولة مضللة لا تؤدي إلى حقيقة، سواء فسر من جانب قبضة الطين أو من جانب نفخة الروح.
والجاهليات في التاريخ كله تجنح دائما إلى تفسير الإنسان -سواء نظريا أو عمليا أو هما معا- بجانب واحد من جوانبه، أو بجانب غالب بحيث يسحق الجانب الآخر ويقهره ويكاد يلغيه.
الجاهليات المادية تبرز جانب الجسد، وجانب الحس، وجانب المادة، فإذا أخذت شيئا من النفخة العلوية أخذت جانب العقل وأبت جانب الروح، وسخرت العقل -من ثم- في شهوات الجسد ومطالب الحس وعالم المادة ففقد علويته ورفعته، وأسف مع قبضة الطين، وأنشأ عمارة مادية للأرض خالية من إشراقة الروح.
والجاهليات الروحية تبرز جانب الروح، وتهمل الجسد وتكبته وتقهره وتحتقره وتقوم بتعذيبه من أجل رفعة الروح، كما تفعل الهندوكية والرهبانية، كما أنها تهمل عالم الحس وعالم المادة، فلا يقوم الإنسان بعمارة الأرض, ولا يقاتل الشر والطغيان، ولا يجاهد لإقامة الحق والعدل، اكتفاء بلذة "الفناء" في عالم الروح، التي يتم من خلالها "الوجود"!.
والجاهلية المعاصرة -كما هو واضح- جاهلية مادية مغرقة في المادية، [1] سورة القيامة: 16-19.
اسم الکتاب : مذاهب فكرية معاصرة المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 393