ثانياً: من الوجوه والأسباب التى كان الصحابة من أجلها يمتنعون أو ينهون عن الإكثار من التحديث، إذا كان المخاطبون بالأحاديث قوم حديثى عهد بالإسلام ولم يكونوا قد أحصوا القرآن واتقنوه فيخافون عليهم الاشتغال عنه بالأحاديث قبل اتقانه هو أولاً إذ هو الأصل لكل علم [1] .
... ويشير إلى هذا السبب صراحة قول عمر رضي الله عنه: "إنكم تأتون أهل قرية لهم دوى بالقرآن كدوى النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن" أى جودوا الأصل الأول، وهو القرآن، وابدؤا به أولاً، ولا تبدؤا بالأحاديث؛ فتشغلوهم عن إتقان القرآن.
ويدل على ذلك صراحة رواية الحاكم: "فلا تبدءونهم بالأحاديث فيشغلونكم جردوا القرآن وأقلوا الرواية".
... وعلى هذا المنهاج صار السلف الصالح من أئمة الحديث فكان كثير منهم لا يقبلون الطلاب فى حلقاتهم إلا إذا وثقوا من دراستهم للقرآن الكريم، وحفظ بعضه على الأقل، وفى هذا يقول حفص بن غياث [2] : أتيت الأعمش فقلت: حدثنى، قال أتحفظ القرآن؟ قلت. لا. قال اذهب فاحفظ القرآن، ثم هلم أحدثك. قال فذهبت فحفظت القرآن، ثم جئته، فاستقرأنى، فقرأته، فحدثنى" [3] . [1] جامع بيان العلم 2/121. [2] حفص بن غياث هو: ابن طلق بن معاوية النخعى، أبو عمر، الكوفى، القاضى، ثقة فقيه، تغير حفظه قليلاً فى الآخر، روى عن عاصم الأحول، ويحى ابن سعيد، والأعمش، وعنه أحمد، ويحيى، وإسحاق. مات 94، وقيل 95هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/229 رقم 1436، والكاشف 1/343 رقم 1165، والثقات للعجلى 125 رقم 310. [3] المحدث الفاصل 1/19، وانظر: السنة قبل التدوين ص 155.