اسم الکتاب : شبهات حول القرآن المؤلف : عمارة، محمد الجزء : 1 صفحة : 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الشبهة الثانية
يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به (4: 48) . ومع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم، عليه السلام، بل جعله نبياً رغم أنه عبد النجوم والشمس والقمر (6: 86-78) . فما الإجابة؟
الجواب:
الشرك محبط للعمل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر: 64-66) ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48) .
والأنبياء والرسل هم صفوة الله من خلقه، يصطفيهم ويستخلصهم، ويصنعهم على عينه، وينزهم - حتى قبل البعثة لهم والوحي إليهم - عن الأمور التي تخل بجدارتهم للنبوة والرسالة. . ومن ذلك الشرك، الذي لو حدث منهم واقترفوه لكان مبرراً لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه. . ولذلك، لم يرد في القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد الأنبياء والرسل قبل بعثته. . بمن في ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام. ..
أما الآيات التي يشير إليها السؤال. . وهي قول الله، سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 74-83) .
أما هذه الآيات، فليس فيها دليل على أن إبراهيم، عليه السلام، قد مر بمرحلة شرك، وحاشا له أن يقع في ذلك، وإنما هي تحكي كيف آتى الله إببراهيم الحجة على قومه. . حجة التوحيد، ودحض الشرك. . فهي حجاج وحوار يسلم فيه إبراهيم جدلاً - كشأن الحوار - بما يشركون؛ لينقض هذا الشرك، ويقيم الحجة على تهاوي ما به يحتجون، وعلى صدق التوحيد المركوز في فطرته. . ليخلص من هذا الحوار والحجاج والاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقي - بعد هذه الخيارات التي سقطت - هو التوحيد. . فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق والبرهان والاستدلال، الذي فند دعاوى وحجج الخصوم. . الاستدلال اليقيني - {وليكون من الموقنين} - وليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد. . تلك هي الحقيقة التي رجحجها المفسرون:
فالقرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671هـ 1273م) يقول في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) - مورداً الآراء المختلفة حول هذا الموضوع:
"قوله تعالى: "قال هذا ربي " اختلف في معناه على أقوال؛ فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان ...
وقال قوم: هذا لا يصح؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " "إبراهيم: 35 " وقال جل وعز: "إذ جاء ربه بقلب سليم " "الصافات: 84 " أي لم يشرك به قط. .
لقد قال "هذا ربي " على قول قومه؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر؛ ونظير هذا قوله تعالى: "أين شركائي " "النحل: 27 " وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: ابن شركائي على قولكم. . .
وقيل: إنما قال " هذا ربي " لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: " نور على نور " [النور: 35] قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه أزداد نورا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: " أتحاجوني في الله وقد هدان " [الأنعام: 80] .
وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل هذا يكون ربا؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل " أفإن مت فهم الخالدون " [الأنبياء: 34] أي أفهم الخالدون؟ ... " (1)
ومع هذا الرأي ايضاً الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (467-538هـ/1075-1144م) صاحب تفسير (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) . . الذي يقول في تفسير هذه الايات:
"وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إل?هاً، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها، وصانعاً صنعها، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
{هَـ?ذَا رَبّى} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة.
{لا أُحِبُّ ?لأفِلِينَ} لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام.
{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إل?هاً وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه.
{إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ} أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. " (2)
وعلى هذا الرأي أيضاً - من المحدثين - الشيخ عبد الوهاب النجار (1278-1360هـ/1862-1941م) - صاحب (قصص الأنبياء) - الذي يقول: "لقد أتى إبراهيم في الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج في الإلزام، أو التدرج في تكوين العقيدة. ." (3) ..
ذلك هو موقف إبراهيم الخليل، عليه السلام، من الشرك. . لقد عصمه الله منه. . وإنما هي طريقة في الجدال يتدرج بها مع قومه، منطلقاً من منطلقاتهم؛ ليصل بهم إلى هدم هذه المنطلقات، وإلى إقامة الدليل العقلي على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة في القلوب.
----------------------------------------------------
(1) (الجامع لأحكام القرآن) ج7 ص25، 26. طبعة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة سنة 1387 هـ سنة 1967 م.
(2) (الكشاف) ج2 ص30، 31 طبعة دار الفكر - بيروت - بدون تاريخ - وهي طبعة مصورة عن طبعة طهران "انتشارات آفتاب - طهران" - وهي الأخرى بدون تاريخ للطبع.
(3) (قصص الأنبياء) ص80. طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - بدون تاريخ للطبع.
السابق التالي
اسم الکتاب : شبهات حول القرآن المؤلف : عمارة، محمد الجزء : 1 صفحة : 3