الذوبان في بوتقة مناهج الغرب الدخيلة
أما السبب الثالث من أسباب طرحي لهذا الموضوع هو: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فلقد هزمت الأمة هزيمة نفسية نكراء، وراحت تنظر إلى هذه الحضارة الغربية المادية نظر الملهوف الذي فقد كل شيء، وأصبح مستعداً للذوبان في أي شيء، وللتفاعل مع أي منهج، حتى ولو كان يخالف العقيدة والسنة النبوية الصحيحة، فانساحت الأمة، وراحت تحاكي محاكاة عمياء، تقلد الشرق الملحد تارة، وتدور في فلك الغرب الكافر تارة أخرى، وهانحن الآن نراها تدور في فلك الوسط مرة ثالثة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم وراءهم، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) فمن غير هؤلاء؟ اتبعت الأمة طريق المغضوب عليهم من اليهود، وطريق الضالين من النصارى، وتركت طريق الأطهار الأخيار الأبرار، تركت أصل عزها، ونبع شرفها ومجدها وكرامتها وسيادتها بل وبقائها، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهنا قد يئن الإخوة ويقولون بنظرة حزن وألم: فما هو الحل، وما هو العلاج، وما هو السبيل إلى الإصلاح؟ والجواب في كلمة واحدة، نعم في كلمة واحدة ألا وهي: التربية.
قد يئن الآن بعض الأحبة ويقول: أهذا هو الطريق، وذاك هو العلاج؟! فأقول: نعم.
يقول: آه والله إنه لطريق طويل.
وA إنه على الرغم من طوله فإن هذا الطريق هو الذي سلكه أعظم مربٍ عرفته الدنيا.
لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة -أيها الأحباب- فما هي المنهجية الصحيحة لإقامة دولة الإسلام؟ اذهبوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنرى كيف أقام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً.
والله ما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتربية، بتربية أفراد قلائل من الصحابة الأطهار الأخيار الكرام، خلا بهم بعيداً عن هذا المجتمع الجاهلي الذي كفر بالله وأشرك به، في دار منعزلة بعيدة، لأنه لا بد من الانفصال ولا بد من التميز، ولا بد من المفاصلة، أما أن نعيش وسط هذا المجتمع، وأن نحاكيه، وأن نقلده، وألا نعتز بعقيدتنا، أو نستعلي بديننا، أو ننفصل بإيماننا، أو نظهر للدنيا توحيدنا وإسلامنا، فلن نستطيع أن ننقل للدنيا هذا النور الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم.
خلا النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الأطهار في دار بعيدة متواضعة، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبدأ مع هؤلاء، ليربيهم على القرآن، وعلى السنة الصحيحة، ليصقل نفوسهم، وليهذب ضمائرهم، وليربي أخلاقهم وقلوبهم، ثم قام بهم ومعهم وعلى أكتافهم ليقيم للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً.
وانتبه -أيها الشاب الحبيب- والله إني لأعلم أن دماء الإخلاص تتدفق في عروقك حباً لهذا الدين، وأنك الآن على استعداد لأن تقدم دمك وروحك ونفسك لدين الله جل وعلا، وهذا خير عظيم كثير، واحمد الله أن شرفك الله بحمل همِّ هذا الدين، فغيرك يسير ويمشي في هذه الدنيا بلا غاية ولا هدف، لا يعرف له غاية، ولا يعرف له هدفاً، بل ولا يعرف له مصيراً، فاحمد الله أن شرفك بهذا الدين:
ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أيها الحبيب! لا تتعجل، ولا تتعجلوا النتائج -أيها الأطهار- فإن دين الله قادم -إي وربي- كقدوم الليل والنهار، لا تتعجلوا النتائج؛ لأن الله جل وعلا لن يسألنا لماذا لم تنتصروا؟ ولكن الله جل وعلا سيسألنا لماذا لم تعملوا؟ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] أما النتائج فعلمها عند ربي، ومن الأدب مع الله جل وعلا ألا نتعجل النتائج، وألا نقول لربنا: يا رب! لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا أحد.
يا رب! لقد دعونا كثيراً وما زال الطغاة والطواغيت والظلمة والمتكبرون والمتجبرون هم الذين بيدهم القوة والسطوة، وهم الذين بيدهم السلطان، وإن أهل التوحيد يعذبون ويضطهدون، ويصب البلاء على رءوسهم صباً، وتصب المحن على رءوسهم صباً.
هذا من سوء أدبنا مع الله جل وعلا، ابذل دمك وروحك، وابذل جاهك ووقتك، واحمل همَّ الدين في قلبك، وتحرك لدين الله، واعلم بأن النتائج ليست عليك، ولن يسألك الله عن نتائج دعوتك.
اصبروا، والله لقد جاء صحابي متحمس كتحمس شبابنا الأطهار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يوماً ليقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا! ألا تستنصر لنا! والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ يجلس، ويحمر وجهه ويغضب من هذا الطرح ويقول: والذي نفسي بيده! لقد كان الرجل يؤتى به من قبلكم، فينشر بالمنشار أو يوضع المنشار في مفرق رأسه ويشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم، فما يصده ذلك عن دين الله، فوالله ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) .
أيها الشباب! اصبروا، والله ذلكم وعد الله، ووعد من لا ينطق عن الهوى: (والله ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) والحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وهو حديث صحيح الإسناد من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
هذا وعد الله، وكلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3-5] .
فلا ينبغي أبداً أن يعادي بعضنا بعضاً، أو يحقر بعضنا بعضاً، أو يسخر بعضنا لمنهج البعض الآخر، أبداً، وإنما نعلم جميعاً أن كل جهد يبذل لدين الله فهو على خير، وأسأل الله أن يصحح لي ولكم النيات، وأن يتقبل مني وإياكم جميعاً صالح الأعمال.