responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان المؤلف : عبد الرحيم الطحان    الجزء : 1  صفحة : 456
وإذا أقبل العبد على الحي القيوم، وأعرض عمن هو فان معدوم، فإن الله – جل وعلا – سيكون له، ويتولى أمروره، فيجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. روى الإمام الذهبي – عليه رحمة الله تعالى – في تذكرة الحفاظ: أن الرحلة في طلب العلم جمعت بين المحمدين الأربعة: ابن جرير، وابن خزيمة، وابن هارون الروياني في مصر، فأرملوا، ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وجاعوا، فاجتمعوا في بيت واقترعوا على أن من خرجت عليه القرعة يسأل، فخرجت على ابن خزيمة، فقال: أمهلوني حتى أصلي، وقام يصلي فإذا هم بشمعة وخِصِي من قبل أمير مصر، ففتحوا، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هذا فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فأعطاه مثلها، ثم كذلك بابن خزيمة، وبالروياني، ثم حدثهم فقال: إن الأمير كان قائلا ً بالأمس، فرأى في النوم أن المحامد جياع قد طووا فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفذت فعرفوني [1] .

[1] انظر تذكرة الحافظ: (2/753) ، وفي الإحياء: (4/263-264) قصة تشبه هذه حاصلها أن حذيفة المرعشي صحب إبراهيم بن أدم، وخدمه في طريقه إلى مكة – رحمهما الله تعالى – قال: فبقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد، فنظر إليّ إبراهيم، وقال: يا حذيفة أرى بك جوعاً، فقلت: هو ما رأى الشيخ، فكتب في قرطاس:
أنا حامدٌ أنا شاكِرْ أنا ذاكرٌ ... أنا جائعٌ أنا شائعٌ أنا عاري
هي ستّة ٌ وأنا الضّمينُ لنصفها ... فكن الضمينَ لنِصْفها يا باري
مدحي لغيرك لَهَبُ نار ٍ خضتُها ... فأِرْ عُبيدَك من دُخول النار
الرقعة إلى أول من يلقاك ... فليتني رجل على بغلة فناولته الرقعة
ثم دفع إليّ الرقعة، وقال اخرج، ولا تعلق قلبك، بغير الله – جل وعلا – وادفع فلما وقف عليها بكى، وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني، فدفع إلى صرة فيها ستمائة دينار، ثم لقيت رجلا ً آخر، فسألته عنه، فقال: هذا نصراني، فرجعت إلي إبراهيم ثم جاء الرجل، وأكب على رأس إبراهيم يقبله، وأسلم 10هـ وقد جرت عادة كثير من العلماء الكرام مقابلة صفات النقص فيهم بصفات الكمال في ربهم، طلباً لرحمة الله، وامتثالا ً لما ورد في القرآن الكريم، من أمثال قول رب العالمين: "وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء" محمد 47، فالرازي يقول في مفاتيح الغيب: (27/24) : منك الرحمة والفضل والجود والإحسان، ومني: العجز والذلة والخيبة والخسران، والألوسي يقول كما في أعيان القرة الثالث عشر: (50) :
أنا مذنب أنا مجرم أنا خاطي ... هو غافرٌ هو راحم هو عافي
ج
قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغْلِبَنْ أوصافُه أوصافي
واعلم أن سؤال المخلوقين من غير ضرورة حرام، ويباح عند الضرورة، ولا يجب وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحيم الرحمن – ونقله عنه تلميذه ابن القيم الهمام – أسكنه الله غرف الجنان – فقال: وكان شيخنا يشير إلى أنه لا يجب الطلب والسؤال، وسمعته يقول في السؤال هو ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق الخلق، وظلم في حق النفس، أما في حق الربوبية: فلأنه يذل سؤاله وفقره، وذله واستعطاءه لغير الله _ جل وعلا – وذلك نوع من العبودية، فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، فأراق ماء وجهه لغير خالقه، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله، وتوكله عليه، ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤل الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفئ نوره، ويضعف قوته.
وأما ظلمه للخلق المسئولين: فلما في ذلك من منازعتهم ما في أيديهم بالسؤال، واستخراجه منهم، وأبغض ما إليهم، من يسألهم ما في أيديهم: من لا يسألهم، فإن أموالهم محبوباتهم، ومن سألك محبوبتك فقد تعرض لمقتك وبغضك، ولأنه يعرضك لمشقة البذل، أو لوم المنع، وأما ظلم السائل نفسه: فحيث امتهنها وأنزلها أدنى المنزلتين، ورضى لها بأبخس الحالتين، فأقامها في ذل السؤال ورضى لها بذل الطلب ممن هو مثله، أو لعل السائل خير منه، وأعلى قدراً، وترك سؤال من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، فقد أقام السائل نفسه مقام الذل، وأهانها بذلك، ورضي أن يكون شحاذ مثله، فإن من تشحذه فهو أيضاً شحاذ مثلك، والله وحده هو الغني الحميد، فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير، والرب – تبارك وتعالى – كلما سألته كرمت عليه، ورضي عنك، وأحبك، والمخلوق كلما سألته هنت عليه، وأبغضك، وقلاك ومقتك، كما قيل:
لا تسألن بني آدم حاجة ً ... وسل الذي أبوابُه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سُؤاله ... وبني آدم حين يُسأل يغضبُ
وقبيح بالعبد المريد، أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه المجيد، كل ما يريد نسأل الله أن يصون ماء وجوهنا، وأن يحفظنا مما فيه إذلالنا، إلا إليه ففي ذلك عزنا وسعادتنا إنه سميع مجيب، انظر ذلك مع شيء من التصرف فيه في مجموع الفتاوى: (1/190-191) ، ومدارك السالكين: (../131-132، 2/232-233) .
اسم الکتاب : خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان المؤلف : عبد الرحيم الطحان    الجزء : 1  صفحة : 456
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست