responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مناهج التأليف عند العلماء العرب المؤلف : الشكعة، مصطفى    الجزء : 1  صفحة : 59
ومن قرصته بأظفارها، وتوطأته بثقلها، قلاها نافرًا عنها، وذمها ساخطًا عليها، وشكاها مستزيدًا منها. وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها، وأرضعتنا من درها أفاويق استحلبناها، ثم شمست منا نافرة، وأعرضت عنا متنكرة، ورمحتنا مولية، فملح عذبها، وأمر حلوها، وخشن لينها، ففرقتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان، فدارنا نازحة، وطيرنا بارحة، قد أخذت كل ما أعطت وتباعدت مثل ما تقربت، وأعقبت بالراحة نصبًا، وبالجذل هما، وبالأمن خوفًا، وبالعز ذلًّا، وبالخبرة حاجة، وبالسراء ضراء، وبالحياة موتًا، لا ترحم من استرحمها، سالكة بنا سبيل من لا أوبة له، منفيين عن الأولياء، مقطوعين عن الأحياء.
ويمضي عبد الحميد في رسالته الحزينة البليغة التي وصف حال الدنيا فيها وصفًا لم يكد يسبقه إليه كاتب آخر فلسفةً وعمقًا وثراء معنى وغنى لفظ فيقول:
"وكتبت إليكم والأيام تزيدنا منكم بعدًا، وإليكم صبابة ووجدًا، فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها، يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم نرجع إليكم بذل الإسار والصغار، والذل شر دار، وألأم جار، يائسين من روح الطمع وفسحة الرجاء، نسأل الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة، في دار آمنة، تجمع سلامة الأديان والأبدان، فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين"[1].
وهذه الرسالة كما ذكرنا هي آخر ما خطت يراع عبد الحميد في حياته الحافلة بألوان الكتابة الممتعة الثرية المترفة البليغة التي تصور شخصية عبد الحميد أصدق تصوير.
إننا نحس ونحن نقرأ لعبد الحميد رسالته إلى أهله أنه سيد القلم، سيد اللفظ، سيد التعبير العربي النابع من ثقافته الإسلامية المحضة، وليس -كما ذهب بعض الأساتذة ممن عرضوا لهذا الموضوع- من ثقافته الفارسية التي ورثها عن أهله أو الثقافة اليونانية التي أخذها من أستاذه سالم، ذلك أن سالمًا لم يترك أثرًا نحكم به عليه من خلاله.
إن عبد الحميد لم يقل إنه أوتي البلاغة من الفرس أو الروم وإنما قال إنه أخذها عن العرب والمسلمين، لقد قيل له: ما الذي مكنك من البلاغة، وخرجك فيها، فأجاب حفظ كلام الأصلع -يعني بذلك أمير المؤمنين- وإمام البلغاء علي بن أبي طالب.
وخير لهؤلاء الذين يعانون عقدة الفارسية، وعقدة اليونانية حتى يردون كل جيد في

[1] المفردات: الدر: اللبن. الأفاويق: ما يتجمع في الضرع من اللبن بعد الحلب. شمست: نفرت، رمحتنا: رفستنا من رمح الفرس. فرقتنا: أخرجتنا. الطير البارحة: التي تطير من اليمين إلى اليسار وكان العرب يتشاءمون منها. الجذل: السرور. الجدة: الميسرة.
اسم الکتاب : مناهج التأليف عند العلماء العرب المؤلف : الشكعة، مصطفى    الجزء : 1  صفحة : 59
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست