responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مناهج التأليف عند العلماء العرب المؤلف : الشكعة، مصطفى    الجزء : 1  صفحة : 193
ليحصل عليها منه، فذهب ابن طيفور إلى رجاء الذي اعتذر عن صرف المال قائلًا إن مولاه لم يأمره بشيء، فكتب ابن طيفور إلى الحسن هذين البيتين الفكهين:
أما "رجاء" فأرجا ما أمرت به ... فكيف إن كنت لم تأمره يأتمر
بادر بجودك مهما كنت مقتدرًا ... فليس في كل وقت أنت مقتدر
وقد مر بيتاه في المبرد:
ويوم كحر الشوق في صدر عاشق ... على أنه منه أحر وأومد
ظللت به عند المبرد قائلًا ... فما زلت في ألفاظه أتبرد[1].
وللبيتين قصة طريفة، فقد خرج ابن طيفور -فيما يحكيه عن نفسه- من منزل أبي الصقر "لعله أبو الصقر إسماعيل بن بلبل" نصف النهار في شهر تموز "يوليه" فقلت: ليس بقربي منزل أقرب من منزل المبرد، إذ كنت لا أقدر أن أصل إلى منزلي بباب الشام. فجئته فأدخلني إلى حويشة له، وجاء بمائدة فأكلت معه لونين، وسقاني ماء باردًا، وقال لي: أحدثك إلى أن تنام، فجعل يحدثني أحسن حديث، فحضرني لشؤمي وقلة شكري بيتان، فقلت: قد حضرني بيتان، فهل أنشدهما؟ فقال: ذاك إليك، وهو يظن أني قد مدحته، فأنشدته:
ويوم كحر الشوق في صدر عاشق
- البيتين
فقال لي: قد كان يسعك إذا لم تحمد ألا تذم، ومالك عندي جزاء إلا أن أخرجك، والله لا جلست عندي بعد هذا، فأخرجني. فمضيت إلى منزلي بباب الشام، فمرضت من الحر الذي نالني مدة، فعدت باللوم على نفسي[2].
وهكذا شأن الظرفاء وأصحاب الفكاهات، لا يتردد الواحد منهم عن إيراد النكتة ولو كان الثمن الذي يعود عليه ضررًا بالغًا، وهذه الحادثة على فكاهتها تبين كرم المبرد وأنسه، وهي في الوقت نفسه ربما تميط اللثام عن الأسباب الكامنة وراء هجاء ابن طيفور للمبرد ووصفه بالتصحيف والكذب.
ولابن طيفور في الحياة فلسفة وتعليل دفعا به إلى اصطناع الكذب أحيانًا، فهو يرى أن انحراف الناس في أخلاقهم، وحيدهم عن الجادة، وابتعادهم عن الصدق، ورغبته هو نفسه في أن ينصر الصدق -كل ذلك قد أفضى به إلى اصطناع الكذب. إنها أخلاق الناس في كل زمان ومكان، وليس في زمان ابن طيفور نفسه، وسواء وافقناه على فلسفته أم خالفناه -ونحن لا شك مخالفوه- فبيتاه لا يخلوان من طرافة وحسن تعليل وواقعية مريرة:

[1] أومد: من الومد وهو صميم الحر. قائلًا، من القيلولة، أي قضاء فترة القيلولة التي يشتد فيها الحر.
[2] معجم الأدباء "3/ 90".
اسم الکتاب : مناهج التأليف عند العلماء العرب المؤلف : الشكعة، مصطفى    الجزء : 1  صفحة : 193
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست