اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 676
علم الحكمة
وهو: علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، بقدر الطاقة البشرية.
وموضوعه: الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان.
وعرفه بعض المحققين: بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية، فيكون موضوعه الأعيان الموجودة.
وغايته: هي التشرف بالكمالات في العاجل، والفوز بالسعادة الأخروية في الآجل.
وتلك الأعيان: إما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أولا.
فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد، يسمى: حكمة عملية.
والعلم بأحوال الثاني، يسمى: حكمة نظرية، لأن المقصود منها ما حصل بالنظر.
وكل منهما ثلاثة أقسام:
أما العملية: فلأنها إما علم بمصالح شخص بانفراده ليتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، ويسمى: تهذيب الأخلاق، وقد ذكر في علم الأخلاق.
وإما علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والمولود، والمالك والمملوك، ويسمى: تدبير المنزل، وقد سبق في التاء.
وإما علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة، ويسمى: السياسة المدنية، وسيأتي في السين.
وأما النظرية: فلأنها إما علم بأحوال ما لا يفتقر في الوجود الخارجي، والتعقل إلى المادة كالآلة، وهو العلم الإلهي وقد سبق في الألف.
وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي، دون التعقل كالكرة، وهو العلم الأوسط، ويسمى: بالرياضي والتعليمي، (1/ 677) وسيأتي في الراء.
وإما علم بأحوال ما يفتقر لها في الوجود الخارجي والتعقل كالإنسان، وهو العلم الأدنى، ويسمى: بالطبيعي، وسيأتي في الطاء.
وجعل بعضهم ما لا يفتقر إلى المادة أصلاً قسمين:
ما لا يقارنها مطلقاً كالآلة، والعقول.
وما يقارنها لكن لا على وجه الافتقار كالوحدة، والكثرة، وسائر أمور العامة.
فيسمى العلم بأحوال الأول: علماً إلهياً.
والعلم بأحوال الثاني: علماً كلياً، وفلسفة أولى.
واختلفوا في أن المنطق من الحكمة أم لا؟
فمن فسرها بما يخرج به النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل، جعله منها بل جعل العمل أيضاً منها.
وكذا من ترك الأعيان في تعريفها، جعله من أقسام الحكمة النظرية، إذ لا يبحث فيه إلا عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارانا.
وأما من فسرها بأحوال الأعيان الموجودة، وهو المشهور بينهم، فلم يعده منها؛ لأن موضوعه ليس من أعيان الموجودات، والأمور العامة ليست بموضوعات بل محمولات تثبت للأعيان، فتدخل في التعريف.
ومن الناس من جعل الحكمة اسماً لاستكمال النفس الإنسانية في قوتها النظرية، أي: خروجها من القوة إلى الفعل في الإدراكات التصورية، والتصديقية، بحسب الطاقة البشرية.
ومنهم من جعلها اسماً لاستكمال القوة النظرية بالإدراكات المذكورة، واستكمال القوة العملية؛ باكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط.
وكلام الشيخ في (عيون الحكمة) يشعر بالقول الأول، وهو: أنه جعل الحكمة اسماً للكمالات المعتبرة في قوة النظرية فقط، وذلك لأنه فسر الحكمة باستكمال النفس الإنسانية بالتصورات والتصديقات، سواء كانت في الأشياء النظرية، أو في الأشياء العملية، فهي مفسرة عنده باكتساب هذه الإدراكات.
وأما اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة، فما جعلها جزأ منها، بل جعلها غاية للحكمة العملية.
وأما حكمة الإشراق، فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية، كما أن الحكمة الطبيعية، والإلهية منها بمنزلة الكلام منها، وبيان ذلك أن السعادة العظمى، والمرتبة العليا للنفس الناطقة، هي: معرفة الصانع بما له من صفات الكمال، والتنزه عن النقصان، بما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة.
وبالجملة (1/ 678) معرفة المبدأ والمعاد.
والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين:
أحدهما: طريقة أهل النظر، والاستدلال.
وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات.
والسالكون للطريقة الأولى، إن التزموا ملة من ملل الأنبياء عليهم السلام، فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاؤن.
والسالكون إلى الطريقة الثانية، إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع، فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون، فلكل طريقة طائفتان.
وحاصل الطريقة الأولى: الاستكمال بالقوة النظرية، والترقي في مراتبها الأربعة، أعني: مرتبة العقل الهيولاني، والعقل بالفعل، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد، والأخيرة هي الغاية القصوى؛ لكونها عبارة عن مشاهدة النظريات التي أدركتها النفس؛ بحيث لا يغيب عنها شيء، ولهذا قيل: لا يوجد المستفاد لأحد في هذه الدار؛ بل في دار القرار، اللهم إلا لبعض المتجردين عن علائق البدن، والمنخرطين في سلك المجردات.
وحاصل الطريقة الثانية: الاستكمال بالقوة العملية، والترقي في درجاتها التي أولها: تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والنواميس الإلهية.
وثانيها: تهذيب الباطن عن الأخلاق الذميمة.
وثالثها: تحلي النفس بالصور القدسية الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام.
ورابعها: ملاحظة جمال الله سبحانه وتعالى وجلاله، وقصر النظر على كماله.
والدرجة الثالثة من هذه القوة، وإن شاركتها المرتبة الرابعة من القوة النظرية، في أنها تفيض على النفس، منها:
صور المعلومات على سبيل المشاهدة كما في العقل المستفاد، إلا أنها تفارقها من وجهين:
أحدهما: أن الحاصل في المستفاد لا يخلو عن الشبهات الوهمية؛ لأن الوهم له استيلاء في طريق المباحثة، بخلاف تلك الصور القدسية، فإن القوى الحسية قد سخرت هناك للقوة العقلية، فلا تنازعها فيما تحكم به.
وثانيهما: أن الفائض في الدرجة الثالثة قد تكون صوراً كثيراً، استعدت النفس بصفائها عن الكدورات، وصقلها عن أوساخ التعلقات، لأن تفيض تلك الصور عليها كمرآة صقلت، وحوذي بها ما فيه صور كثيرة، فإنه يتراءى فيها ما يتسع (تسع) هي من تلك الصور.
والفائض عليها في العقل المستفاد، هو: العلوم التي تناسب تلك المبادي، التي رتبت معاً للتأدي إلى مجهول، كمرآة صقل شيء يسير منها، فلا يرتسم فيها إلا شيء قليل من الأشياء المحاذية لها.
قال ابن خلدون في المقدمة: وأما العلوم العقلية التي هي طبيعة للإنسان، من حيث أنه ذو فكر، فهي غير مختصة بملة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم، ويستوون في مداركها، ومباحثها، وهي (1/ 679) موجودة في النوع الإنساني مذ كان عمران الخليقة، وتسمى هذه العلوم: علوم الفلسفة والحكمة.
وهي سبعة:
المنطق: وهو المقدم.
وبعده التعاليم: فالأرتماطيقي أولاً، ثم الهندسة، ثم الهيئة، ثم الموسيقى، ثم الطبيعيات، ثم الإلهيات.
ولكل واحد منها فروع يتفرع عنه، واعلم أن أكثر من عنى بها في الأجيال الأمتان العظيمتان: فارس والروم، فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم، لما كان العمران موفوراً فيهم، والدولة والسلطان قبل الإسلام لهم، وكان للكلدانيين، ومن قبلهم من السريانيين، والقبط عناية بالسحر والنجامة، وما يتبعها من التأثيرات والطلسمات، وأخذ عنهم الأمم من فارس ويونان.
ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه، فدرست علومه، إلا بقايا تناقلها المنتحلون.
وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً، ولقد يقال: أن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا، وغلب على مملكته، واستولى على كتبهم وعلومهم.
إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، أصابوا من كتبهم:
كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، يستأذن في شأنها وتنفيلها للمسلمين.
فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: أن اطرحوها في الماء فإن يكن فيها هدى، فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً، فقد كفانا الله تعالى، فطرحوها في الماء، أو في النار، فذهبت علوم الفرس فيها.
وأما الروم، فكانت الدولة فيهم ليونان أولاً، وكان لهذه العلوم شأن عظيم، وحملها مشاهير من رجالهم مثل: أساطين الحكمة.
واختص فيها المشاؤن منهم: أصحاب الرواق، واتصل سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط، ثم إلى تلميذه أفلاطون، ثم إلى تلميذه أرسطو، ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفروديسي.
وكان أرسطو أرسخهم في هذه العلوم، ولذلك يسمى: المعلم الأول.
ولما انقرض أمر اليونانيين، وصار الأمر للقياصرة، وتنصروا، هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع، وبقيت في صحفها، ودواوينها، مخلدة في خزائنهم.
ثم جاء الإسلام، وظهر أهله عليهم، وكان ابتداء أمرهم بالغفلة عن الصنائع، حتى إذا تنحنح السلطان والدولة، وأخذوا من الحضارة، تشوقوا إلى الإطلاع على هذه العلوم الحكمية، مما سمعوا من الأساقفة، وما تسموا عليه أفكار الإنسان فيها.
فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم، أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب أوقليدس، وبعض كتب الطبيعيات، وقرأها المسلمون، واطلعوا على ما فيها، وازدادوا حرصاً على الظفر بما بقي منها.
وجاء المأمون من بعد ذلك، وكانت له في العلم رغبة (1/ 680) ، فأوفدوا الرسل إلى ملك الروم في استخراج علوم اليونانيين، وانتساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه، واستوعب، وعكف عليها النظار من أهل الإسلام، وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول، واختصوه بالرد والقبول، ودونوا في ذلك الدواوين.
وكان من أكابرهم في الملة: أبو نصر الفارابي، وأبو علي بن سينا بالمشرق، والقاضي أبو الوليد رشد، والوزير أبو بكر بن الصايغ بالأندلس، بلغوا الغاية في هذه العلوم.
واقتصر كثير على انتحال التعاليم، وما ينضاف إليها من علوم النجامة، والسحر، والطلسمات.
ووقفت الشهرة على: مسلمة بن أحمد المجريطي، من أهل الأندلس، ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما، وتناقصت العلوم بتناقصه، اضمحل ذلك منه، إلا قليلاً من رسومه.
ويبلغنا عن أهل المشرق: أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة، وخصوصاً في عراق العجم، وما وراء النهر؛ لتوفر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم.
وكذلك يبلغنا لهذا العهد: أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الفرنجة، وما يليها من العدوة الشمالية، نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة. انتهى خلاصة ما ذكره ابن خلدون.
أقول: وكانت سوق الفلسفة، والحكمة نافقة في الروم أيضاً، بعد الفتح الإسلامي إلى أواسط الدولة العثمانية، وكان شرف الرجل في تلك الإعصار بمقدار تحصيله، وإحاطته من العلوم العقلية، والنقلية، وكان في عصرهم فحول ممن جمع بين الحكمة، والشريعة، كالعلامة: شمس الدين الفناري، والفاضل: قاضي زاده الرومي، والعلامة: خواجه زاده، والعلامة: علي قوشجي، والفاضل بن المؤيد، وميرم جلبي، والعلامة: ابن كمال، والفاضل: ابن الحنائي، وهو آخرهم.
لما حل أوان الانحطاط، ركدت ريح العلوم، وتناقصت بسبب منه بعض المفتين عن تدريس الفلسفة، وسوقه إلى درس الهداية، والأكمل فاندرست العلوم بأسرها إلا قليلاً من رسومه، فكان المولى المذكور سبباً لانقراض العلوم من الروم.
كما قال مولانا، الأديب: شهاب الدين الخفاجي، في خبايا الزوايا، وذلك من جملة إمارة انحطاط الدولة، كما ذكره ابن خلدون، والحكم لله العلي العظيم.
ونقل النديم في الفهرس: أنه كانت الحكمة في القديم ممنوعاً منها، إلا من كان من أهلها، ومن علم أن يتقبلها طبعاً.
وكانت الفلاسفة تنظر في مواليد من يريد الحكمة والفلسفة، فإن علمت منها أن صاحب المولد في مولده حصول ذلك استخدموه، وناولوه الحكمة، وإلا فلا.
وكانت الفلسفة (1/ 681) ظاهرة في اليونانيين والروم، قبل شريعة المسيح عليه السلام، فلما تنصرت الروم منعوا منها، وأحرقوا بعضها، وخزنوا البعض؛ إذ كانت بضد الشرائع.
ثم إن الروم عادت إلى مذهب الفلاسفة، وكان السبب في ذلك أن جوليانوس بن قسطنطين، وزر له مسطيوس، مفسر كتب أرسطاليس، ثم قتل جوليانوس في حرب الفرس، ثم عادت النصرانية إلى حالها، وعاد المنع أيضاً.
وكانت الفرس نقلت في القديم شيئاً من كتب المنطق، والطب إلى اللغة الفارسية، فنقل ذلك إلى العربي: عبد الله بن المقفع، وغيره.
وكان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى: حكيم آل مروان، فاضلاً في نفسه له همة، ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة.
فأحضر جماعة من الفلاسفة، فأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اليوناني إلى العربي.
وهذا أول نقل كان في الإسلام، ثم إن المأمون رأى في منامه رجلاً حسن الشمايل، فقال: من أنت؟
فقال: أنا أرسطاليس، فسأل عن الحسن، فقال: ما حسن في العقل، ثم ماذا؟ فقال: ما حسن في الشرع، فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب، وكان بينه، وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إليه يسأله إنفاذ ما يختار من الكتب القديمة المخزونة بالروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع.
فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم: الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة.
فأخذوا ما اختاروا، وحملوه إليه، فأمرهم بنقله فنقل.
وكان يوحنا بن ماسويه ممن ينفذ إلى الروم، وكان محمد، وأحمد، والحسن بنو شاكر المنجم، ممن عنى بإخراج الكتب.
وكان قسطا بن لوقا البعلبكي قد حمل معه شيئاً، فنقل له.
وأول من تكلم في الفلسفة على زعم فرفوريوس الصوري في تاريخه السرياني سبع أولهم: ثاليس، وقال آخرون: قوتاغورس، وهو أول من سمى الفلسفة بهذا الاسم، وله رسائل تعرف بالذهبيات، لأن جالينوس كان يكتبها بالذهب، ثم تكلم على الفلسفة سقراط من مدينة أتينة بلد الحكمة.
ومن أصحاب سقراط أفلاطون، كان من أشراف يونان، وكان في قديم أمره يميل إلى الشعر، فأخذ منه بحظ عظيم، ثم حضر مجلس سقراط، فرآه يثلب الشعراء فتركه، ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة، وعنه أخذ أرسطاليس وألف كتباً، وترتيب كتبه، هكذا المنطقيات، الطبيعيات، الإلهيات، الخلقيات، أما المنطقية فهي ثمانية كتب.
اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 676