اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 50
فتح:
اعلم: أن الإفادة من أفضل العبادة، فلا بد له من النية، ليكون ابتغاء لمرضاة الله تعالى، وإرشادا لعباده، ولا يريد بذلك زيادة جاه، وحرمة، ولا يطلب على إفاضته أجرا، اقتداء بصاحب الشرع - عليه الصلاة والسلام -.
ثم ينبغي له مراعاة أمور، منها: أن يكون مشفقا، ناصحا على المتعلم، وأن ينبهه على غاية العلوم، ويزجره عن الأخلاق الردية، ويمنعه أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه، وأن يتصدى للاشتغال فوق طاقته، وأن لا يزجر إذا تعلم للرياسة والمباهاة، إذ ربما يتنبه بالآخرة لحقائق الأمور، بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم، يستفاد به الرياسة بالإطماع فيها، حتى يستدرجه إلى الحق.
اعلم: أن الله - سبحانه وتعالى - جعل الرياسة وحسن الذكر حفظا للشرع والعلم، مثل الحب الملقى حول الشبكة، وكالشهوة الداعية إلى التناسل، ولهذا قيل: لولا الرياسة، لبطل العلم؛ وأن يزجر عما يجب الزجر عنه، بالتعريض، لا بالتصريح.
فتح:
ومنها: أن العلوم الآلية، لا توسع فيها الأنظار، وذلك لأن العلوم المتداولة، على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات والحكميات، وعلوم: هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية، والمنطق، وأما المقاصد: فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل، واستكشاف الأدلة، فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته، وأما العلوم الآلية: فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي: آلة للغير، ولا يوسع فيها الكلام، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، وصار الاشتغال بها لغوا، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها، بطولها، وكثرة فروعها، وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات، لطول وسائلها، فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية، تضييعا للعمر، وشغلا بما لا يعني، وهذا كما فعله المتأخرون في: النحو، والمنطق، وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها، نقلا، واستدلالا، وأكثروا من التفاريع والمسائل، بما أخرجها من كونها آلة، وصيرها مقصودة بذاتها، فيكون لأجل ذلك: لغوا، ومضرا بالمتعلمين، لاهتمامهم بهذه الآلات أكثر من المقصود.
فإذا أفنى العمر، فمتى يظفر بالمقاصد؟ فيجب عليه أن لا يستبحر فيها، ولا يستكثر من مسائلها.
فتح:
ومنها: أن يبدأ بما يهم للمتعلم في الحال، إما في معاشه، أو في معاده، ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم، ويراعي الترتيب الأحسن، حسبما يقتضيه رتبتها، على قدر الاستعداد، فمن بلغ رشده في العلم، ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم، وإلا: فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون أهلا له أولى به.
فمن منح الجهال علما أضاعه * ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فإن بث المعارف إلى غير أهلها مذموم.
وفي الحديث: (لا تطرحوا الدرر في أفواه الكلاب) .
وكذا ينبغي: أن يجتنب إسماع العوام كلمات الصوفية، التي يعجزون عن تطبيقها بالشرع، فإنه يؤدي إلى انحلال قيد الشرع عنهم، فيفتح عليهم باب الإلحاد والزندقة، فينبغي أن يرشد إلى علم العبادات الظاهرة، وإن عرض لهم شبهة، يعالج بكلام إقناعي، ولا يفتح عليهم باب الحقائق، فإن ذلك فساد النظام، وإن وجد ذكيا ثابتا على قواعد الشرع، جاز له أن يفتح باب المعارف، بعد امتحانات متوالية، لئلا يتزلزل عن جادة الشرع.
تنبيه: اعلم أنه يجب على الطالب: أن لا ينكر ما لا يفهم من مقالاتهم الخفية، وأحوالهم الغريبة، إذ كل ميسر لما خلق له.
قال الشيخ في (الإرشادات) : كل ما قرع سمعك من الغرائب، فذره في بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنه قائم البرهان. انتهى.
وإنما الغرض من تدوين تلك المقالات: التذكرة لمن (1/ 52) يعرف الأسرار، والتنبيه على من لا يعرفها، بأن لنا علما، يجل عن الأذهان فهمه، حتى يرغب في تحصيله.
كما في الحديث: (إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعرفها إلا العلماء بالله - تعالى -، فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل الغرة) .
وروي: عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: (حفظت من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وعائين، أما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته لقطع هذا البلعوم) .
وغرضهم: عدم إمكان التعبير عنه، وخوف مقايسة السامعين الأحوال الإلهية، بأحوال الممكنات، فيضلوا، أو يسوء الظن في قائلها، فيقابلوه بالإنكار.
المنظر الثامن: في شروط الإفادة، ونشر العلم، وفيه: فتوحات أيضا
اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 50