اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 38
الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين، وأحوالهم
اعلم: أن المؤلفين المعتبرة تصانيفهم فريقان.
الأول: من له في العلم ملكة تامة، ودربة كافية، وتجارب وثيقة، وحدس صائب، وفهم ثاقب، فتصانيفهم: عن قوة تبصرة، ونفاذ فكر، وسداد رأي، كالنصير، والعضد، والسند، والسعد، والجلال، وأمثالهم، فإن كلا منهم: يجمع إلى تحرير المعاني، تهذيب الألفاظ، وهؤلاء أحسنوا إلى الناس، كما أحسن الله - سبحانه وتعالى - إليهم، وهذه لا يستغني عنها أحد.
والثاني: من له ذهن ثاقب، وعبارة طلقة، طالع الكتب فاستخرج دررها، وأحسن نظمها، وهذه ينتفع بها المبتدئون والمتوسطون، ومنهم: من جمع وصنف للاستفادة، لا للإفادة، فلا حجر عليه، بل يرغب إليه إذا تأهل، فإن العلماء قالوا: ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه، إذا احتاج الناس إليه، بتوضيح عبارته، غير مائل عن المصطلح، مبينا مشكله، مظهرا ملتبسه، كي يكتسبه جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر، فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله، إذا شرع، ويصرف إليه كل شغله، قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف، ثم إذا تم، لا يخرج ما صنفه إلى الناس، ولا يدعه عن يده، إلا بعد تهذيبه، وتنقيحه، وتحريره، وإعادة مطالعته، فإنه قد قيل: الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه جنسه، ما لم يضع كتابا، أو لم يقل شعرا.
وقد قيل: من صنف كتابا، فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن، فقد استهدف من الحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف.
قالت الحكماء: من أراد أن يصنف كتابا، أو يقول شعرا، فلا يَدْعُوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله، ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل، أو أشعار، فإن رأى الأسماع تصغي إليه، ورأى من يطلبه انتحله وادعاه، فليأخذ في غير تلك الصناعة.
تذنيب: ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا، ولا وجه لإنكاره من أهله، وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار، ولله در القائل في نظمه (شعر)
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا * ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثا * وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم: أن نتائج الأفكار، لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه، لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية، ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر، بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأول للآخر، فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته، لا لقدمه وحدوثه.
ويقال: ليس بكلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئا، لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظواهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها.
كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (أمتي أمة مباركة، لا يدرى أولها خير، أو آخرها) .
وقال ابن عبد ربه في (العقد) : إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا، وأسهل نقة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة، من الأول، لأنه نافض متعقب، والأول: باد متقدم. انتهى.
وروي: أن المولى: خواجة زاده كان يقول: ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد، الشريف: الجرجاني، بنية الاستفادة.
وذكر صاحب (الشقائق) في ترجمة: المولى: شمس الدين الفناري: أن الطلبة إلى زمانه، كانوا يعطلون يوم الجمعة، ويوم الثلاثاء، فأضاف المولى المذكور إليهما يوم الإثنين، للاشتغال بكتابة تصانيف العلامة التفتازاني، وتحصيلها. انتهى.
الترشيح الثاني: في الشرح، وبيان الحاجة إليه، والأدب فيه
واعلم: أن كل من وضع كتابا، إنما وضعه ليفهم بذاته، من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة.
الأمر الأول: كمال مهارة المصنف، فإنه لجودة ذهنه، وحسن عبارته، يتكلم على معان دقيقة، بكلام وجيز، كافيا في الدلالة على المطلوب، وغيره ليس في مرتبته، فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر، فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة، لتظهر تلك المعاني الخفية، ومن ها هنا شرح بعض العلماء تصنيفه.
الأمر الثاني: حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة، فأغفل علل بعض القضايا، فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة، ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم، ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات، ويرتب القياسات، ويعطي علل ما لم يعط المصنف.
الأمر الثالث: احتمال اللفظ لمعان تأويلية، أو لطافة المعنى، عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه، أو للألفاظ المجازية، واستعمال الدلالة الالتزامية، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو، والغلط، والحذف لبعض المهمات، وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة، إلى غير ذلك، فيحتاج أن ينبه عليه.
ثم إن أساليب الشرح على: ثلاثة أقسام.
الأول: الشرح: بقال أقول، (كشرح المقاصد) ، و (شرح الطوالع) للأصفهاني، و (شرح العضد) .
وأما المتن: فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه، وقد لا يكتب، لكونه مندرجا في الشرح بلا امتياز.
والثاني: الشرح: بقوله، (كشرح البخاري) لابن حجر، والكرماني، ونحوهما.
وفي أمثاله: لا يلتزم المتن، وإنما المقصود: ذكر المواضع المشروحة، ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماما، إما: في الهامش، وإما: في المسطر، فلا ينكر نفعه.
والثالث: الشرح مزجا، ويقال له: شرح ممزوج، يمزج فيه عبارة المتن والشرح، ثم يمتاز إما بالميم والشين، وإما بخط يخط فوق المتن، وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين، وغيرهم، لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط.
ثم إن من آداب الشارح وشرطه: أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه، بقدر الاستطاعة، ويذب عما قد تكفل إيضاحه، بما يذب به صاحب تلك الصناعة، ليكون شارحا، غير ناقض وجارح، ومفسرا غير معترض، اللهم إلا إذا عثر على شيء، لا يمكن حمله على وجه صحيح، فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح، متمسكا بذيل العدل والإنصاف، متجنبا عن الغي والاعتساف، لأن الإنسان محل النسيان، والقلم ليس بمعصوم من الطغيان، فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة؟
وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه، سالما من العيب، محفوظا له عن ظهر الغيب، حتى يلام في خطئه، فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا، ويكني بمثل: قيل، وظن، ووهم، واعترض، وأجيب، وبعض الشراح، والمحشى، أو بعض الشروح والحواشي، ونحو ذلك، من غير تعيين، كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين، فإنهم تأنفوا في أسلوب التحرير، وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين، بأمثال ما ذكر، تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم، وتعظيما لحقهم، وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين، لا من الراسخين، وإن لم يمكن ذلك، قالوا: لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة، لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة، وأجابوا عن لمز بعضهم، بأن ألفاظ كذا وكذا، ألفاظ فلان بعبارته، بقولهم: إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك، فإن تصانيف المتأخرين، بل المتقدمين، لا تخلو عن مثل ذلك، لا لعدم الاقتدار على التغيير، بل حذرا عن تضييع الزمان فيه، وعن مثالبهم: بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم، بأنه إن اتفق، فهو من توارد الخواطر، كما في تعاقب الحوافر على الحوافر.
الباب الثالث: في المؤلفين، والمؤلفات، وفيه: ترشيحات
الترشيح الأول: في أقسام التدوين، وأصناف المدونات
واعلم: أن كتب العلوم كثيرة، لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف، ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين.
الأول: إما أخبار مرسلة، وهي: كتب التواريخ.
وإما: أوصاف وأمثال ونحوها، قيدها النظم، وهي: دواوين الشعر.
والثاني: قواعد علوم، وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف.
الأول: مختصرات، تجعل تذكرة لرؤوس المسائل، ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء، لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة.
والثاني: مبسوطات، تقابل المختصر، وهذه ينتفع بها للمطالعة.
والثالث: متوسطات، وهذه نفعها عام.
ثم إن التأليف على: سبعة أقسام، لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها.
وهي: إما شيء لم يسبق إليه، فيخترعه.
أو: شيء ناقص يتممه.
أو: شيء مغلق يشرحه.
أو: شيء طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه.
أو: شيء متفرق يجمعه.
أو: شيء مختلط يرتبه.
أو: شيء أخطأ فيه مصنفه، فيصلحه.
وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه: أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد.
استنباط شيء كان معضلا.
أو: جمعه إن كان مفرقا.
أو: شرحه إن كان غامضا.
أو حسن نظم وتأليف.
وإسقاط حشو وتطويل.
وشرط في التأليف: إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله، من غير زيادة ولا نقص، وهجر اللفظ الغريب، وأنواع المجاز، اللهم إلا في الرمز، والاحتراز عن إدخال علم في آخر، وعن الاحتجاج بما يتوقف بيانه على المحتج به عليه، لئلا يلزم الدور.
وزاد المتأخرون: اشتراط حسن الترتيب، ووجازة اللفظ، ووضوح الدلالة، وينبغي أن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان، وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة، فمتى كانت الخواطر ثاقبة، والإفهام للمراد من الكتب متناولة، قام الاختصار لها مقام الإكثار، وأغنت بالتلويح عن التصريح، وإلا: فلا بد من كشف، وبيان، وإيضاح، وبرهان، ينبه الذاهل، ويوقظ الغافل.
وقد جرت عادة المصنفين: بأن يذكروا في صدر كل كتاب، تراجم تعرب عنه، سموها: (الرؤوس) ، وهي: ثمانية.
الغرض: وهو الغاية السابقة في الوهم، المتأخرة في الفعل.
والمنفعة: ليتشوق الطبع.
والعنوان: الدال بالإجمال على ما يأتي تفصيله، وهو قد يكون بالتسمية، وقد يكون بألفاظ وعبارات تسمى: (ببراعة الاستهلال) .
والواضع: ليعلم قدره.
ونوع العلم: وهو الموضوع، ليعلم مرتبته، وقد يكون جزءا من أجزائه، وقد يكون مدخلا، كما سبق في بحث الموضوع.
ومرتبة ذلك الكتاب: أي: متى يجب أن يقرأ؟
وترتيبه.
ونحو التعليم: المستعمل فيه، وهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية.
وأنحاء التعليم خمسة:
الأول: التقسيم والقسمة المستعملة في العلوم، قسمة العام إلى الخاص، وقسمة الكل إلى الجزء، أو الكلي إلى الجزئيات، وقسمة الجنس إلى الأنواع، وقسمة النوع إلى الأشخاص، وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي.
وقد يقسم الكلي إلى الذاتي، والعرضي والذاتي إلى العرضي، والعرضي إلى الذاتي، والعرضي إلى العرضي، والتقسيم الحاصر: هو المردد بين النفي والإثبات.
والثاني: التركيب، وهو: جعل القضايا مقدمات، تؤدي إلى المعلوم.
والثالث: التحليل، وهو: إعادة تلك المقدمات.
والرابع: التحديث، وهو: ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية.
والخامس: البرهان، وهو: قياس صحيح عن مقدمات صادقة، وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية، وأما ما عداها، فيكتفي بالإقناع.
اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 38