اسم الکتاب : مجلة المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد الجزء : 1 صفحة : 881
الكاتب: محمد رشيد رضا الوعظ والوعاظ [*]
قال أستاذ حكيم: (إن الإيمان نائم في قلوب العامة يحتاج إلى إيقاظ) وهي
كلمة صحيحة لا ريب فيها، والذي يوقظ الإيمان حتى تصدر عنه آثاره الحسنة
وتتشعب فوائده وفضائله التي أدناها إماطة الأذى من الطريق - هو التذكير الصحيح
والموعظة الحسنة، فلو وُجد فينا علماء مخلصون لهم غيرة على الدين بعدد مساجدنا،
وتولى كل واحد منهم الوعظ والتذكير في مسجد منها، وإرشاد خطيبه إلى الخطب
النافعة ولو بإنشائها له - لأمكنهم إيقاظ الإيمان في قلوب الناس، ومتي استيقظ الإيمان
صدرت عنه آثاره وتلك سعاد الدنيا والآخرة.
لا أعني بالعلماء من قرأ حواشي الصبان على الأشموني، ومطولات الفقه
بحيث يقدر على التنكيت في قوله وانتحال العلل لتقديم الأبواب والفصول وتأخيرها،
ولا من يحفظ فروعًا كثيرة في أبواب الرقيق ونحوها مما لا يتعلق به عمل في هذا
العصر، ولا مَن عنده كثير من الأحكام الغريبة التي لا تقع فيحتاج الناس إلى معرفة
حكمها كجواز التناكح بين الإنس والجن وعدمه، وإنما أعني بالعلماء كل من له
وقوف على سر الدين وحكم التشريع وانطباق أحكام الإسلام على مصالح البشر
وتأثيرها في سعادتهم في الدارين وحكمة في وضع الأشياء في مواضعها ومخاطبة
الناس على قدر عقولهم وإعطائهم ما تمس إليه حاجتهم، وإنما تجتمع هذه الصفات
لمن يجمع بين العلم بأخلاق الدين وعقائده وآدابه، والعلم بأحوال الناس وشؤونهم
ومرامي أفكارهم، وكيفية معاملاتهم، لا لمن يقول: لا يمكن الجمع بين العلم واختبار
شؤون الناس كما سمعناه من بعض مشاهير الشيوخ.
الطب الروحاني الذي هو تهذيب الأخلاق وتقويم الملكات والعادات والوقوف
بالنفس الناطقة الإنسانية موقف الاعتدال، هو كالطب الجثماني الذي غايته اعتدال
مزاج البدن. وأهم ما في الطبين معرفة حقيقة المرض ثم معرفة علاجه، العلاج
ووصف الدواء مشروح في الكتب، ولكن بدن الإنسان ونفسه لا يوضعان في الكتب
فلا بد من النظر فيهما بما ترشد إليه المعرفة الصحيحة، وكل من يتصدى لمعالجة
الأبدان أو الأرواح قبل الوقوف على حقيقة مرضها فهو خادع أو مخدوع ولا يزيد
علاجه المريض إلا بلاء وعناء.
تدخل مسجد سيدنا الحسين (عليه الرضوان والسلام) في هذه الأيام فتشاهد
كثيرًا من الوعاظ والمدرسين، وقد حشر الناس إليهم حتى كادوا يكونون عليهم لبدًا،
ولكن أكثر هؤلاء الوعاظ من أطباء النفوس الكاذبين الذين يضاعفون الداء فيُنهك من
يعالجونه مرضًا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين! يزيدون الخاملين خمولاً
بما يكررونه من عبارات التزهيد في الدنيا، ويزيدون الفجار استرسالاً في فجورهم
بما يعِدونهم، ويمنونهم المغفرة والعتق من النار مهما عظمت الذنوب وتراكمت
الأوزار، نعم إن منهم من يأمر بالتوبة ويستتيب الناس، ولكن تلك التوبة كلام بكلام
فهي أيضًا من جملة أنواع التغرير، فبتزهيدهم في الدنيا أمسكوا بالهمم عن تحصيل
سعادتها الصحيحة وبتمنيتهم بالمغفرة والرحمة أمنوهم من العقوبة فبطُل الخوف الذي
يزجر عن المحرمات وصار الرجاء الذي يبعث على الجد في العمل غرورًا،
والخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما صاحب الدين إلى مرضاة رب
العالمين، وهي غاية السعادة الأخروية، فهكذا تضافر الخطباء والوعاظ على قطع
طريقي السعادتين، وطمس معالم النجدين، وتركوا المسلم مقصوص الجناحين.
فمتى يفوز ومن عداه بعضه ... ومتى يفيق ومن ضناه طبيبه
حدثنا بعض أبناء المدارس الأذكياء أنه جلس إلى أحد أولئك الوعاظ
المدرسين، فكان الدرس - وهو في تقليم الأظافر - مدعاة لاستغراب هذا الذكي؛
لأنه لم يكن يتصور أن الدين شرع لتعليم الناس كيف يقلمون أظافرهم، ومتى
يقلمونها. ولا أنكر أن بعض الكتب النافعة يوجد فيها كثير من اللغو الذي لا يصح في
السنة ولا يرشد إليه العقل، يشتغل به من لا قيمة للوقت عندهم فيضيعون الأعمار
باللغو والعبث. ومن هذا اللغو بحث تقليم الأظفار، وقد أوردوا فيه كلامًا غريبًا
وجعلوا له ترتيبًا وكيفيات وانتحلوا له فوائد وغوائل تختلف باختلاف الأيام، منها: أن
التقليم يوم الخميس يورث الغنى، ويوم الجمعة يورث العلم، ويوم السبت يورث
الأكلة ... إلخ.
على أن هذا الدرس الذي لا ينفع ولا يضر إلا بتضييع الوقت الذي لا قيمة له
عند أكثر قومنا أخف مصابًا على الأمة من الدروس الأخرى التي تنفث في الأرواح
سم التكسيل عن الكسب والتجرؤ على الاسترسال في اللهو والمعاصي والاعتذار عن
التقصير بالقضاء والقدر، وبمثل هذه السموم يموت روح الدين.
يا رباه ماذا أقول؟ لو كان هؤلاء الوعاظ يقرءون للناس شيئًا من الأحكام
الفقهية لمَا وصل إضرارهم إلى هذا الحد، فالخطأ في الاعتقاد يُنتج الكفر والخطأ
في تهذيب النفوس ينتج فساد الأخلاق واختلال الأعمال وشقاء الأمة في الحال
والمآل.
أما الخطأ في الأحكام الفقهية فالأمر فيه أهون؛ لأنه لا يكون غالبًا إلا في
الأحكام الخفية التي يُعذر جاهلها ولا يؤاخَذ المخطئ بها، على أن هذه الأحكام لما
يكثر فيها من الخلاف لا يكاد يعدو المدرس قول فقيه يؤخذ بقوله، ومع هذا كله تجد
علماءنا لا يبالون إلا بهذا الفن الذي يسمونه فقهًا، وقد أهملوا في الأكثر فقه الدين،
وهو تهذيب الأخلاق الذي هو موضوع البشارة والإنذار اللذين لم ترسل الأنبياء إلا
لأجلهما بشهادة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105)
وقد بينا من قبل أن الفقه في الدين هو ما تعلق به الإنذار بدليل قوله عز وجل:
{لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} (التوبة: 122) لا علم الإجارة والبيع
والسَّلَم ونحوها.
يظن أكثر شيوخنا أن علم الأخلاق الذي هو مادة الوعظ والتذكير بديهي، لا
حاجة إلى دراسته وتلقيه لسهولته بخلاف الفقه - وهذا من أغرب الظنون الأثيمة،
فإن موضوع هذا العلم قوى النفس الإنسانية، وصفات الروح العاقل المدبر للبدن
المتصرف له في أعماله وغايته السعادة الحقيقية؛ لأن السعادة ثمرة الأعمال
الصالحة النافعة، والأعمال تابعة للأخلاق حسنًا وقبحًا، كما أوضحناه في مقالة
سابقة، لا جرم أن هذا العلم من أدق العلوم وأعوصها كما أنه من ألذها وأنفعها.
كان من أهم وظائف الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والأستاذ الفاضل
السيد علي الببلاوي انتقاء الوعاظ والمدرسين للمسجد الحسيني من أعلم الشيوخ
بالتهذيب وأفقههم في الدين، وأكثرهم وقوفًا على ما تمس إليه حاجة الناس في
مصالحهم، وامتحان من يتصدى لذلك مدعيًا الكفاءة، كما امتحن الإمام علي كرم الله
وجهه الحسن البصري، فقد روي أنه دخل مسجد البصرة أو الكوفة فرآه كالمسجد
الحسيني في هذه الأيام مملوءًا بالقُصَّاص، فطردهم إلا الحسن، فإنه رأى عليه سيما
العلم والصلاح، فقال له: يا فتى إني سائلك عن شيء إن أجبت عنه وإلا طردتك كما
طردت أصحابك، ثم قال له: ما مِلاك الدين؟ فقال الحسن: الورع، فقال له: وما
فساد الدين؟ قال: الطمع. فقال: اثبت، فمثلك من يتكلم على الناس.
وإنما اكتفى الإمام منه بهذا لأنه مع صحته يؤذن بأن الحسن يعظ لوجه الله
تعالى، لا طمعًا في نوال المستمعين واستمالة قلوبهم كما عليه أكثر القصاص من
ذلك العصر إلى اليوم.
ومن كان يريد الحق يهتدي إليه، ومن كان يريد التقرب من الناس فإن الهوى
يعميه ويصده عن سبيل الحق فيقص عليهم ما يرى أنه يسرهم، وإن كان يغرهم
وما يرضيهم وإن كان يضرهم فيكون ضالاًّ مضلاًّ.
وإن على من يعلم الحق ويكتمه مثل ما على من يعلّم بغير الحق من الوزر أو
أكثر، ومثلهما في ذلك من يقدر على إزالة المنكر ووضع المعروف في موضعه،
ولا يفعل.
فعسى أن يحاسب العلماء أنفسهم ويقوم كل بما يجب عليه، فترى المساجد في
جميع الشهور (لا في رمضان فقط) ينابيع لعلوم الدين وتهذيب المسلمين،
وينتفي بعلم الراسخين جهل الجاهلين، والله ولي المتقين.
يمكنني أن أذيل كلامي هذا بكلمة ثناء على أمثل مجلس حضرته في وعظ
العامة في مصر، اعترافًا بالحق لأهله وتنشيطًا للواعظ والموعوظ، ذلك مجلس
الأستاذ الفاضل الشيخ علي الحربي، فلقد خطب في أحد المساجد خطبة ما سمعت
على منبر أحسن منها، وعقد بعد الصلاة مجلس وعظ لا يتناوله شيء من انتقاد هذه
المقالة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
(*) فاتحة العدد 46 المؤرخ في 23 رمضان سنة 1316 - 4 فبراير (24ك) 1899.
اسم الکتاب : مجلة المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد الجزء : 1 صفحة : 881