اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 369
صلح الحديبية
في شهر شوال من سنة 6هـ، أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه أنه قد نوى زيارة البيت الحرام وأداء العمرة، ودعاهم للتأهب لتأدية هذه الزيارة مبشرًا إياهم بأنه رأى في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام محلِّقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون[1]، وفي الوقت نفسه بعث إلى الأعراب من حول المدينة ليشاركوا في هذه الزيارة[2]، وكانت حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوة الأعراب ممن ليسوا على الإسلام لمشاركة المسلمين في هذه الزيارة أن يؤكد لقريش أنه جاء معتمرًا ولم يجئ غازيًا بدليل أنه يوجد في صفوفه من العرب من ليس على دينه، وليؤكد لهم أن زيارة البيت الحرام فريضة عند المسلمين كما هي فريضة عند العرب، وأن المسلمين يعظمون البيت الحرام كما تعظمه العرب بل هم أشد له تعظيمًا وأكبر عندهم حرمة، وليؤكد لهم كذلك أن مكة سوف لا تفقد مكانتها التي تنالها من مقام البيت فيها، والتي تحرص قريش على بقائها وإلى جانب ذلك يكسب الرأي العربي إلى صفه، فهو يعظم الحرمات ويحرص على المقدسات، ولا يجانب الناس بل يسالمهم، وهو يحرص على الوحدة بين العرب ويعمل لها، وأن التَفَتُّت وجو الحرب ليس من صنعه بل هو من صنع خصومه الذين أرغموه عليه إرغامًا، بمحاربته وصده عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس جميعًا وأمنًا، وليكشف موقف قريش العدائي ليظهر خروجها عن المهمة التي كانت وكلت إليها. والتي تحصل من ورائها على مركزها بين العرب، وهي رعاية البيت الحرام وتهيئته للزائرين سواء منهم [1] {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح] ابن هشام 3/ 367. إمتاع 1/ 274. [2] ابن هشام 3/ 355.
ولم يسعَ وراء مجد عسكري قط، وكان يقدم دعوة السلم قبل أن يدخل في القتال، حتى إذا ما استنفد وسائل السلم قاتل مكرهًا، ثم قاتل في أضيق الحدود، فلم يسرف على خصومه بعد نهاية المعركة. لم يجهز على جريح، ولم يقتل طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا ولا معتزلًا لقتال، وفي المرات التي قسا فيها على بعض خصومة كانت القسوة ضرورة لا محيص عنها.
فلما تحول الموقف بعد الأحزاب إلى صالح الدولة اليثربية وأصبح في إمكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ في يده موقف المبادأة، سعى إلى تهيئة جو السلم وتسويد مبدأ السلام، فمد يده إلى خصومه وأظهر منتهى المرونة والتسامح حتى تم بينه وبين قريش صلح الحديبية.
اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 369