اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 336
لأنفسهم من دون الآلهة، وبذلك كانوا يرون لأنفسهم ميزة على الناس. وكانوا حين تلم بهم شدة أو يحيط بهم الضعف والذل ينتظرون مجيء رسول أو مسيح ينقذهم من البؤس والشقاء، وقد تحولت عندهم هذه الأمنية إلى عقيدة راسخة، ويقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون: ملأت هذه القصة صحفًا كثيرة من صحف الأدب الإسرائيلي القديم والحديث. ولا تزال هذه العقيدة إلى اليوم راسخة في نفوس الطبقات المتدينة من اليهود. وإذا قام شخص وادعى أنه المسيح المنتظر الذي يحنون إليه منذ أزمان طويلة أنكروا ادعاءه وسفهوا قوله ورفضوا الإذعان إلى ما يدعوهم إليه. وكأن الأمة الإسرائيلية كانت ترمي بهذه الفكرة إلى غاية معنوية لا يريدون تحقيقها بوجه من الوجوه [1]. ولقد نزل القرآن الكريم يندد باليهود ويذكر تناقضهم في أنفسهم {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة] فكأن غاية اليهود من أمنيتهم أن يجدوا من يأتي بما يهوون من سيطرة ونفوذ، لا بما تتطلبه الدعوة من إصلاح وخير يعم الناس جميعًا، ومن أجل ذلك كذبوا أنبياءهم، وعارضوا المسيح وحاربوا دعوته وسعوا إلى قتله؛ فإذا جاء محمد فدعا إلى هذا الإله الواحد الناسَ جميعًا بغض النظر عن أجناسهم، فإنه بذلك يزيل عن بني إسرائيل هذه الميزة التي يستفتحون بها على الآخرين. وإذن فلا تهادن بينهم وبين محمد الذي يسعى إلى تحطيم تلك القواعد المقررة التي سار عليها يهود، فقامت بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- محاجات ومجادلات ما لبثت أن اتخذت من جانبهم موقف التحدي والمعاندة، بل لم تلبث أن ورطتهم فيما لا يصح أن يتورط فيه ناس لهم دين سماوي وعندهم كتاب؛ فلقد كفروا بكل مبادئ التوحيد نكاية في محمد، فأعلنوا لقريش حين سألتهم أدينها خير أم ما يدعو إليه هذا الرجل؟ أن دينهم خير وأن الحق في جانبهم[2] وفي تورطهم في هذا الإثم الذي دفع إليه الحقد الأعمى بتفضلهم الأصنام على التوحيد، نزل القرآن يعيرهم ويندد بهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء] .
وأمر آخر أثار حقد اليهود، وذلك هو أن محمدًا استطاع أن يؤلف بين الأوس والخزرج، وأن يجعل منهم كتلة قوية متماسكة تضاءل إلى جانبها وضع اليهود، ثم هو في كل يوم يدخل إلى المدينة من المهاجرين ممن جاءوا معه من مكة ومن يلحق بهم، [1] ولفنسون. [2] ابن هشام 3/ 230.
اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 336