المبحث الرابع: عوامل انتصار المسلمين في حنين:
كانت معركة حنين تجربة عسكرية خطيرة في معارك المسلمين، وكانت أيضا مدرسة تربوية عظيمة إذ ذاق فيها المسلمون مرارة الاندحار، ووطأة الفرار أمام زحف المشركين ونبالهم وعظيم تخطيطهم واشتداد هجمتهم عليهم في بداية المعركة هجمة رجل واحد، كما مضى بيان ذلك[1].
كما أذاقهم الله في هذه المعركة نفسها حلاوة النصر وبهجة الغلبة على أعدائهم، وتلك إحدى الحسنيين، وهذا من خصائص معركة حنين التي كانت المعركة الفاصلة الأخيرة بين المسلمين والمشركين في الجزيرة كما كانت بدرا المعركة الفاصلة الأولى بين الطائفتين.
وفي هذا المبحث نود أن نتلمس من خلال النصوص والمرويات عوامل انتصار المسلمين، ويمكن ان تكون على النحو التالي:
أ- ثبات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ساحة المعركة يناشد ربه النصر والعون، ويعلن لأعداه من هوازن وغيرهم بأنه نبي حقا لا ينبغي له أن يَفِرّ مهما تكاثرت جموعهم، فكان يركض بغلته نحوهم وهو يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب2 [1] تقدم ذلك في "مبحث سبب هزيمة المسلمين" ص: (141) .
2 قوله: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"، فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه يقول أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذبٍ فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر، حق فلا يجوز علي الفرار.
"وأما نسبته إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله" فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شابا، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم: "أيكم ابن عبد المطلب" وقيل: لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق على يديه ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة، وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبيه أصحابه بأنه لابد من ظهوره وأن العاقبة له، لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم. (ابن حجر: فتح الباري 8/31- 32، والنووي: شرح صحيح مسلم 4/406، والزرقاني: شرح المواهب 3/17، 20- 21 وزاد: وفي الروض قال الخطابي: إنما خص عبد المطلب بالذكر في هذا المقام تثبيتا لنبوته وإزالة للشك لما اشتهر وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة به - صلى الله عليه وسلم -، ولما أنبأت به الأحبار والكهان فكأنه يقول: أنا ذاك فلا بد ممّا وعدت به لئلا ينهزموا عنه ويظنوا أنه مغلوب أو مقتول، فالله أعلم أراد ذلك رسوله أم لا. إهـ.
ثم قال الزرقاني: "فليس هذا من الافتخار بالآباء في شيء، وبفرض تسليمه فهو جائز في الحرب لإرهاب العدو". وانظر: الروض الأنف للسهيلي 7/206- 207، والمواهب للقسطلاني 1/163، وفيض القدير للمناوي 3/38.