اسم الکتاب : فقه السيرة المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 230
وانكشف وجه الجد في الأمر؛ إنّ اللقاء المرتقب سوف يكون مرّ المذاق، لقد أقبلت قريش تخبّ في خيلائها، تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام؛ لتنفرد بعدها- الوثنية بالحكم النافذ.
ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره وحاضره بهذا الدين، الذي افتداه، واوى أصحابه؛ فأحبّ أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا- على ضوئه- ما يفعلون.
إنّ المرء قد تفجؤه أحداث عابرة- وهو ماض في طريقه- يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حادّ الانتباه، مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدقّ في الحكم على الناس، وأدلّ على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها، ويتقدّمون إليها واثقين مستعدين، والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير، ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاقّ، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلّبون- على عجل- تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم، فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن.
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى:
اذهب أنت وربّك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحقّ؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه!!.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له.
ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» ، وإنّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم كانوا عدد الناس، وأنّهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله! إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف ألّا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممّن
اسم الکتاب : فقه السيرة المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 230