اسم الکتاب : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة المؤلف : البوطي، محمد سعيد رمضان الجزء : 1 صفحة : 342
وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما حصل» [23] .
قلت: وهو كما يحصل للمريض عند شدّة الحّمى، فمن الأعراض الطبيعية لذلك أن تطوف بالذهن أخيلة وأوهام غير حقيقية لشدة وطأة الحرارة، والأمر في ذلك وأشباهه من الأعراض البشرية التي يستوي فيها الأنبياء والرسل مع غيرهم من الناس.
على أن خبر سحره صلّى الله عليه وسلم، إنما يدخل في جملة الخوارق التي أكرم الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلم، فهو ليس مثار نقيصة له، وإنما هو دليل جديد من أدلة إكرام الله له، وحفظه إياه. فقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وظل يكثر من الدعاء حين شعر بهذه الأعراض في جسمه إلى أن أطلعه الله على المكيدة التي صنعها له لبيد بن الأعصم في السّر، فذهب إلى حيث قد طوى الرجل أمشاطه وأسباب سحره فأبطل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل ذلك وإليك نص الحديث:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا. ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب (أي مسحور) ، قال: من طبّبه؟
قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة [24] وجف طلع نخل ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها النّبي صلّى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه.. فجاء فقال:
يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين! .. قلت يا رسول الله:
أفلا استخرجته، قال: لقد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرّا، فأمر بها (أي البئر) فدفنت» .
فأنت ترى أن هذا الحديث دليل إكرام وعصمة من الله لرسوله أكثر من كونه دليل أذى قد أصابه في جسمه أو أي جانب يتعلق ببشنريته.
بقي أن أحدا قد يستشكل قائلا: فكيف تتميز المعجزة الإلهية إذن عن السحر ومظاهره مادام أن له حقيقة؟
والجواب، أن المعجزة التي تحصل على يد النّبي صلّى الله عليه وسلم إنما تكون مقترنة بدعوى النّبوة والتحدي بها كدليل على صدق دعواه. وليس السحر كذلك فلا يمكن أن يتم على يد الساحر مع [23] شرح الشفاء للقاضي عياض: 4/ 278، 279، وانظر أيضا شرح النووي على مسلم: 14/ 174 [24] المشط معروف، والمشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، وجف الطلع: هو الغشاء الذي يكون على الطلع.
اسم الکتاب : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة المؤلف : البوطي، محمد سعيد رمضان الجزء : 1 صفحة : 342